نحن آباؤكم فلا تشبهونا

ت + ت - الحجم الطبيعي

ما أشبه الليلة بالبارحة، بل ما أشبه الليالي كلها ببعضها. هل تذكرون انتفاضة أطفال الحجارة؟ هل تذكرون كم مضى عليها؟ خمس سنوات.. عشر سنوات.. عشرون سنة؟ لقد مضى عليها أكثر من ثلاثين سنة! جيل كامل شكّله أولئك الأطفال الذين حملوا الحجارة أواخر عام 1987 احتجاجاً على الوضع العام المزري بالمخيمات، وعلى انتشار البطالة، وإهانة الشعور القومي، والقمع اليومي الذي تمارسه سلطات الاحتلال الإسرائيلي ضد الفلسطينيين.

وقتها كانت الشرارة الأولى للانتفاضة قيام سائق شاحنة إسرائيلي بدهس مجموعة من العمّال الفلسطينيّين على حاجز إريز، الذي يفصل قطاع غزة عن بقية أراضي فلسطين منذ سنة 1948، وما أكثر الشرارات التي جاءت بعدها! يُقدّر أن 1,300 فلسطيني استشهدوا أثناء أحداث الانتفاضة الأولى على يد الجيش الإسرائيلي، بينهم حوالي 241 طفلا، ونحو 90 ألف جريح ومصاب، و15 ألف معتقل، فضلاً عن تدمير ونسف 1,228 منزلاً، واقتلاع 140 ألف شجرة من الحقول والمزارع الفلسطينية.

كبر من لم يستشهد من أولئك الأطفال الذين حملوا الحجارة يومها فأين أصبحوا؟ ترى هل شاهدتم وجه أحد منهم الأسبوع الماضي عندما أمطرت إسرائيل جموع المتظاهرين سلميا على حدود قطاع غزة، قرب السياج الشائك، أولئك الذين خرجوا في «مسيرات العودة الكبرى» تزامنا مع الذكرى السبعين للنكبة، وتأكيدا لحق العودة؟ استشهد العشرات خلال هذه المسيرات، وأصيب الآلاف، فهل كان بينهم أحد من أولئك الذين قُدِّر لهم أن يعيشوا ثلاثين سنة بعد الانتفاضة الأولى؟ طوبى لهم إذن، فما عاشوه على مدى الثلاثين سنة الماضية أسوأ مما انتفضوا عليه قبل ثلاثين سنة.

وما سيعيشه الذين لم يستشهدوا، لو قُدِّر لهم أن يعيشوا، خلال الثلاثين سنة المقبلة ربما يكون أسوأ.

تظاهروا سلمياً في ذكرى النكبة السبعين، رافضين نقل السفارة الأميركية للقدس المحتلة، مستذكرين كل النكبات التي مرت بها بلادهم على مدى سبعين عاما، فأمطرتهم إسرائيل بالرصاص الحي، ورشتهم بالغاز السام، وقصفتهم بالطائرات المسيرة، وطاردتهم بالآليات والجرافات العسكرية، وشاركت المقاتلات الحربية من طراز «إف 16» الأميركية في قصفهم.

وعلى وقع المجزرة الإسرائيلية، دشنت الولايات المتحدة رسمياً سفارتها في القدس المحتلة، في حفل تضمن كلمة مصورة للرئيس الأميركي دونالد ترامب، قال فيها إن «الحقيقة الواضحة أن عاصمة إسرائيل هي القدس». وكتب على تويتر «إنه يوم عظيم بالنسبة إلى إسرائيل». فماذا كان ردنا؟

إدانات واحتجاجات، ودعوات إلى اجتماعات انعقد بعضها وشجب وندد، وسوف ينعقد بعضها الآخر ويشجب ويندد أيضا، ودعوات لتشكيل لجان تحقيق سوف تتشكل وتحقق وتُعد ملفات سيتم حفظها. ثم ماذا؟ ستمضي السنوات، وينسى الناس أن العشرات قد قُتلِوا في هذه المسيرات، وأن الآلاف قد أصيبوا فيها، وسوف تمر ثلاثون سنة أخرى، وينشأ جيل عاصر هذه الأحداث كي يستذكرها، وربما يكتب ما نكتبه نحن اليوم عنها، ويقول أيضا: «ما أشبه الليلة بالبارحة، بل ما أشبه الليالي كلها ببعضها»؟ فهل يعيد التاريخ نفسه، أم أن المشاهد لا تتغير؟ أم أننا نحن الذين لا نتحرك من أماكننا، أو نعود إلى الوراء، بينما يمضي غيرنا إلى الأمام؟ هذه أسئلة ربما يطرحها من سيأتي بعدنا أيضا، فلا تهملوا تسجيلها.

قبل ثلاثين سنة، عندما تفجرت انتفاضة الحجارة الأولى، جادت قريحة الشاعر الكبير نزار قباني بقصيدة رائعة أرسلها إلى أطفال غزة. وقتها لم يعرف شاعرنا أن قصيدته ستكون صالحة للسنوات المقبلة، فماذا قال نزار؟ هذه أبيات من قصيدته:

يا تلاميذ غزة علمونا.. بعض ما عندكم فنحن نسينا

علمونا كيف الحجارة تغدو.. بين أيدي الأطفال ماسا ثمينا

يا تلاميذ غزة لا تبالوا.. بإذاعاتنا ولا تسمعونا

يا تلاميذ غزة لا تعودوا.. لكتاباتنا ولا تقرؤونا

نحن آباؤكم فلا تشبهونا..نحن أصنامكم فلا تعبدونا

سبعون سنة مرت على نكبة فلسطين الأولى. ثلاثون سنة مرت على انتفاضة الحجارة الأولى، فهل تغير شيء؟

نعم تغيّرت أشياء، تغير إحساسنا بالنكبات. كان للفواجع وقع الخناجر علينا، فأصبح لها وقع القنابل الصوتية، تنفجر فلا تحدث لدينا سوى ضجيج، في الوقت الذي تزهق فيه أرواحنا، وتسيل فيه دماؤنا، وتتقلص فيه الأرض تحت أقدامنا، وتتغير فيه الخرائط حولنا، ويقتسم فيه الأعداء والأصدقاء والحلفاء والفرقاء أرضنا، ويسيطرون فيه على قرارنا، ويحددون مستقبل أبنائنا.

تغيّر تفاعلنا وتفاعل العالم مع النكبات التي تصيبنا. كنا نشجب ونندد، ونخرج في مسيرات، ونملأ الدنيا ضجيجا، وكان الآخرون يتفاعلون معنا. ربما اقتناعا بقضيتنا، وربما إشفاقا علينا، وربما مراعاة لمصالح تربطهم بنا، أو يتوقعون الحصول عليها منا، فأصبح تفاعلنا محدودا بقدر النَّفَس الذي نتنفسه بعد أن تقطعت أنفاسنا ونحن نركض خلف السراب، وأصبح تفاعل العالم معنا محصورا في نداء يصدر هنا، وبيان يصدر هناك، ولا يكادان يُسمِعان أحدا.

تغيرت سياسة الذين كنا نبني آمالا كبيرة على صداقتهم، فغدوا أكثر صراحة في مناصرتهم لعدونا، وأكثر وقاحة في إظهار وجوههم القبيحة لنا. ما كان خطًا أحمر أصبح خطوطا خضراء، وما كان يُقال في الغرف المغلقة خجلا منا، أو مجاملة لنا، أو خداعا لنا، أصبح يُقال علنا دون خجل أو مواربة، أو حتى مراعاة لشعورنا.

«نحن آباؤكم فلاتشبهونا» قالها نزار لأطفال الحجارة قبل ثلاثين سنة، ونقولها اليوم لأطفالنا، وربما يقولها من سيأتي بعدنا لأطفالهم، فمن يدري متى سيغير الله ما بنا، ومن يدري متى سنغير نحن ما بأنفسنا؟

Email