بيروقراطية التواقيع

ت + ت - الحجم الطبيعي

من أبسط الطرق الإدارية للكشف عن مكامن البيروقراطية حصر عدد التواقيع المطلوبة في كل معاملة، فالأكثر مقارنة بنظيراتها من خارج المؤسسة هي بطبيعة الحال الأعلى بيروقراطية. وهذا ما فعله الرئيس الأميركي دونالد ترامب، حينما عبر بحرقة في مؤتمر صحافي بنيويورك عن خيبة أمله بأن ناطحة السحاب «إمباير ستيت»، أكبر ناطحة سحاب في العالم لأربعة عقود، قد شيدت في غضون تسعة أشهر، في حين صار يستغرق بناء ناطحة سحاب إجراءات تمتد لبعض سنوات!

وعرض ترامب يافطة طويلة ملونة كشف فيها أنه لبناء خط سريع فإن الأمر يحتاج إلى عشرات التواقيع، وقد تمتد المعاملة إلى أكثر من عام، وهو ما رفضه الرئيس القادم من عالم المال والأعمال الذي يمقت العاملين فيه البيروقراطية، لأن ضريبتها إهدار الوقت والجهد والفرص.

الحلول متعددة، وليست مرتبطة برؤساء الحكومات أو الشركات، إذ يستطيع رئيس كل قطاع أو إدارة أن يرسم شجرة اتخاذ القرارات لكل أنواع المعاملات الورقية والإلكترونية ليحصر عدد التواقيع ثم يضع جدولاً زمنياً معقولاً للمعنيين لتقديم حلول لتخفيضها من دون أن يؤثر ذلك في جودة العمل. هنا يستطيع كل وزير أو مدير أن يفاخر أمام رئيسه المباشر أو ربما الرأي العام، بأنهم قد نجحوا في جعل العمل أكثر كفاءة. ومن هذه الطرق أيضاً تفعيل فكرة الموظف الشامل.

هناك تجارب عربية ناجحة في تطبيق فكرة الموظف الشامل، منها «مراكز الخدمة» الموجودة منذ سنوات عدة في الأحياء السكنية بدولة الكويت والمولات التجارية الكبرى، والتي تجدد فيها الجوازات والإقامات ورخص القيادة أو هي بالأحرى وزارات مصغرة (كاونترات) تحاول مكافحة البيروقراطية.

وتعد مؤسسة التأمينات الاجتماعية إحدى أكفأ مؤسسات الدولة هناك، ومن أقدم من طبق مشروع الموظف الشامل. وهناك أيضاً تجارب ناجحة في بلدية دبي والتسجيل العقاري ومثلها في أبوظبي والسجل المدني السعودي. وأذكر أنني مع مجموعة من المستثمرين الخليجيين أسسنا شركة كبيرة في مول تجاري بالبحرين.

من أسوأ صور «بيروقراطية التواقيع» تلك التي رأيتها قبل 15 سنة، عندما دخلت دائرة حكومية وبعد معاناة التوقيع الأول، طلب مني الذهاب للمدير الثاني ثم الثالث حتى الخامس، ثم اكتشفت أنني في الواقع جئت لأعمل مندوباً داخلياً للمسؤولين، فليست مسؤوليتنا كمراجعين التنقل بين أروقة العمل. ولحسن الحظ، بدأت ألاحظ أن إدارات حكومية عربية شرعت بالفعل في «محاولات» تقليص الدورة المستندية، وتعزيز التفويض، وإصدار تشريعات اعتماد التوقيع الإلكتروني.

ولن تسعد الإدارات المتعاملين أو المراجعين إلا حينما تفاجئهم بأن سرعة إنجاز المعاملة قد تجاوزت حدود توقعاتهم.

 

 

Email