زمن الطيبين

ت + ت - الحجم الطبيعي

كثيراً ما نشاهد منشورات عبر وسائل التواصل الاجتماعي تتغنى بـ «زمن الطيبين» وتناشد عودة هذا الزمان، مستخدمين صور أدوات كانت تستخدم قديماً مثل (البابور، الهاتف الأرضي، الفانوس) وغيرها من الأمور القديمة.

ربما هؤلاء المتأثرون بزمن الطيبين محقون في مناجاتهم لعودة الأيام والرجوع إلى الزمن الماضي في بعض الحالات الإنسانية أو الاجتماعية كالعلاقات بين الجيران، بين الأصحاب، والتي يظن البعض أننا بتنا نفتقدها في زماننا الحالي، ولكن في الحقيقة أن التواصل بين الناس أصبح اليوم أكبر وأوسع، ولكن بدلاً من الالتقاء الفعلي أصبح اللقاء إلكترونياً، وأصبح من الممكن أن تتواصل مع أي شخص في أي وقت ومن أي مكان.

فالعالم أصبح هو قريتك والجميع هم جيرانك، ولو نظرنا نظرة إيجابية لحياتنا لوجدنا أن غالبية الأشياء التي نستعملها اليوم أفضل بكثير من حيث الجودة والسهولة مما كانت عليه سابقاً، فلماذا مازال الكثيرون متعلقين بزمن الطيبين، وكأننا نعيش اليوم في زمن الأشرار؟!

بمقارنة صغيرة بين ما ننعم به اليوم وبين ما كنا عليه في زمن الطيبين فسنجد أن الحياة اليوم أسهل بكثير مما كانت عليه سابقاً، فالكهرباء متاحة على مدار الساعة دون انقطاع بعد أن كانت لا تصل للكثير من البيوت والمساكن، وتنقطع في معظم الليالي، هذا بخلاف أنه لم تكن موجودة أساساً في زمن الطيبين الأولين، ولنترك عنا الكهرباء ولننظر إلى الهاتف الذكي الذي بين أيدينا وما يمكننا أن نصنع من خلاله، فبدلاً من سلك تجره خلفك داخل غرف البيت لتتمكن من إجراء مكالمة، وإذا خرجت تصبح غير متاح ولا يُعرف لك أرض، أصبحنا اليوم ننعم بوسائل اتصال عديدة منها المحادثة الكتابية والصوتية وصولاً لمكالمات الفيديو.

الحقيقة أن المشكلة ليست في زمن الطيبين ولا في "زمن الأشرار"، المشكلة تكمن في أننا لا نستمتع بما نملك، نحن أمام معضلة حقيقية فكل ما بين أيدينا اليوم من أمور وأغراض وبرمجيات وأنظمة وقوانين ووسائل وآليات وأجهزة جاءت لتسهل حياتنا، لتجعل منا أناساً سعداء يستمتعون بما يملكون.

ولكن هذه الأشياء جميعها لم تدخل وجداننا لنحبها، فأصبحنا نتغنى بالزمن الماضي وما كان عليه من تعقيد في الكثير من الأمور، وفي الزمن الماضي كانوا يمجدون الأزمنة التي قبلهم، وهذه سلسلة لامتناهية، كل جيل يتمنى أن يعيش حياة الجيل الذي يسبقه، ولا أحد يستمتع بما هو عليه ويتكيف ليجد راحته وسعادته، الجميع يبحث عن الصعوبات وعندما تحدثه عن صعوبات حياتنا الحالية يتذمر ويدير وجهه جانباً، وهو يخرج الآهات من الكلل والملل.

نحن نعيش اليوم في عصر من أفضل العصور التي مرت على البشرية، لدينا تكنولوجيا متطورة تساهم في حفظ الأرواح وسلامة الأبدان، فبعد أن كان أبسط الأمراض في زمن الطيبين يجعل من حياتك تعيسة ومريرة، ويموت كل يوم الآلاف لعدم توفر الأدوية أو تتأخر في وصولها، أصبحنا اليوم ننعم بالصحة والعافية وتوفر الأدوية والعلاج المتطور في كل مكان حول العالم.

ليس الدواء فقط إنما الغذاء أيضاً، فاليوم تكاد تخلو الأرض من المجاعات، وإن كانت موجودة فنسبتها ضئيلة مقارنة بالشعوب التي تنعم بالأمن الغذائي، ولو تجولنا في المحلات التجارية لوجدنا جميع أصناف الخضار والفاكهة في أي وقت من العام، فلم يعد هناك موسم لفاكهة معينة، وعلى الرغم من تذمرنا من تدخل المواد الصناعية في الزراعة، إلا أن هذه الأمور تم معالجتها ولنا الخيار في اختيار ما يناسبنا من الجودة والطعم والسعر.

زماننا اليوم هو زمن الطيبين الحقيقيين إن أردنا أن نشاهد هذا الأمر بأعين الطيبين، وتخلينا عن نظرتنا البائسة تجاه كل ما يتطور ويمضي نحو الأمام، فلن يعود ولن نعود نحن لزمانهم، فلنستمتع بما لدينا من أمور سهلت الكثير من صعوبات حياتنا.

ولكم أن تتخيلوا وأن تقارنوا أبسط الأشياء التي تستعملها في يومك وستجد أن لك فيها سعادة وراحة كبيرة، فقط تحتاج لأن تفتح عينيك لتراها جيداً، لتفتح قلبك لتحبها، لتحرك عقلك فتقدر فضلها عليك وما حسنته من جودة حياتك.

الإيجابية في أحد معانيها؛ أن تعيش زمانك لا زمان غيرك، فهم في زمانهم كانوا يواجهون صعوبات تمنوا أن تنتهي، وها نحن اليوم نعيش حياة فيها الكثير من الخيارات والتسهيلات التي كان من سبقنا يتمناها، وما زلنا نسعى لتقديم الأفضل وما زال المستقبل ينتظرنا ليأخذنا لتطورات هائلة في الكثير من المجالات.

ولكن أن يأتي جيل بعدنا يضع صورة الآي فون ويترحم على زمن الطيبين، وهم لا يعلمون أن جيل الآي فون يتمنى رجوع الهاتف الأرضي «أبو عجلة»، وتستمر الحكاية دون أن يستمتع أحد بحياته وما ينعم بها من تطورات تسهل حياته وتجعله أقرب للسعادة وهو يدير لها ظهره ويتباكى على زمن الطيبين إلا ثلة قليلة تعرف كيف تُحمد النعم.

 

 

Email