الخلود وسرّه المفقود

ت + ت - الحجم الطبيعي

في ملحمة نجيب محفوظ الشهيرة «الحرافيش»، يختفي فتوة الحارة عاشور الناجي فجأة، ويظل اختفاؤه واحداً من أسباب خلوده في وجدان الحرافيش وأسرته، حتى تصور البعض أن اختفاءه كرامة من كرامات الأولياء.

وقد صنع الاختفاء منه أسطورة في تلك الحارة، التي قضى الوباء على جميع أهلها، ولم ينج منه سوى عاشور وزوجته فلة وابنه شمس الدين، بعد أن فرّ بهم إلى الخلاء، انقياداً لحلم رأى خلاله مربيه الشيخ عفرة زيدان، الذي توفي منذ سنوات، يستدرجه نحو الخلاء والجبل، فأيقن أنه يدعوه لهجر الحارة حتى ينقشع عنها البلاء ويذهب الوباء، حيث قضى وأسرته ما يقارب الستة أشهر، ثم عاد إليها ليجدها خالية من ساكنيها بعد أن قضى الوباء عليهم جميعاً.

اختفاء عاشور الناجي وغيبته التي لم يعد منها حتى نهاية الملحمة، ظلا سراً من الأسرار التي رفعت من شأنه عند الحرافيش وأبنائه وأحفاده، وعند أهل الحارة التي أعاد إليها الحياة بعد الوباء، بفضل العدل الذي نشره بين أهلها، رغم الظلم الذي وقع عليه.

وقد تكرر هذا الاختفاء لدى عدد من سلالة عاشور الناجي بعد ذلك، لكن الغيبة لم تكن شبيهة بغيبة عاشور، الذي تحول إلى أسطورة ألهمت عدداً من أفراد سلالته، فحاول بعضهم أن يعيد إنتاجها، لكنهم فشلوا بدرجات متفاوتة، وظل عاشور الناجي هو التمثال الذي لم يسقط، ولم يستطع الذين جاؤوا بعده أن يماثلوه أو يقتربوا منه إلا بدرجة معينة، باستثناء ابنه شمس الدين، الذي رافقه مع أمه في هجرته، وخلفه في فتوة الحارة بعد غيبته.

بعد ذلك بفترة جاء جلال عبد ربه الناجي، مطارداً بسيرة أمه زهيرة الناجي السيئة، وبمصرعها أمام عينيه تحت ضربات نبوت زوجها السابق محمد أنور، ثم موت عروسه قمر قبل الزفاف بأيام قليلة، فسيطرت عليه فكرة الخلود والهروب من الموت بأي وسيلة، بعد أن أصبح فتوة الحارة، ولكن بشكل مناقض تماماً للأسطورة عاشور الناجي.

هنا أرشده المعلم عبد الخالق العطار إلى أن الخلود لا يتاح لإنسان إلا بمؤاخاة الجان، والتحام الإنسان بالشيطان إلى الأبد، وأن الوحيد الذي يمكن أن يحقق له ذلك هو الشيخ المجهول شاور، الذي يدّعي قراءة المستقبل.

شروط عجيبة وصعبة فرضها عليه ذلك المشعوذ، استجاب لها تحت إلحاح فكرة الخلود عليه، كان منها أن يعيش عاماً كاملاً في جناحه، لا يرى أحداً ولا يراه إلا خادمه، كي يتم الالتحام بينه وبين الجني في اليوم الأخير، ثم لا يذوق الموت أبداً، وفقاً لذلك الشيخ غريب الأطوار.

وفي اليوم الأخير من العام المكتوب، وقف جلال عبد ربه عارياً أمام نافذة مفتوحة... «استقبل الشمس مغسولاً برطوبة الشتاء، وتلقى نفحات باردة من ريح متأنية. آن للمتصبر أن يجني ثمرة صبره، آن لليل الضني والإرهاق والوحدة أن ينتهي... لن يبتلى بالتجاعيد ولا بالشيب ولا بالوهن. لن تخونه الروح، لن يحمله نعش، لن يضمه قبر.

لن يتحلل هذا الجسد الصلب، لن يتحول إلى تراب. لن يذوق حسرة الوداع. تجول عارياً في الحجرة وهو يقول بطمأنينة:»مباركة هذه الحياة الأبدية«. فهل تحقق لجلال الناجي الخلود الذي كان ينشده؟

لم يتحقق الخلود للأنبياء والرسل والصالحين من عباد الله، فكيف يتحقق لفتوّة جبار قاسي القلب؟! أتت نهاية جلال الناجي على يد خليلته الغانية زينات الشقراء، التي أهملها بعد أن اعتقد أنه صار خالداً يتمتع بالحياة الأبدية، فسقته من السم ما يكفي لقتل فيل، كما اعترفت له وهو يظن أنه يترنح من وطأة السكر، لكنه أصر على أن جلال لا يموت.

وفيما استجمع كل قوته حتى وقف ممتداً في فضاء الحجرة، تراجعت زينات الشقراء في رعب، ثم اندفعت هاربة مجنونة، وسار مترنحاً نحو الخارج وهو عار تماماً، وتمتم وهو يغادر الدار إلى ظلام الحارة: جلال يتألم، ولكنه لا يموت» دهر طويل كان ينبغي أن يمر قبل أن تنسى الحارة منظر جثة جلال المنطرحة على حافة حوض الدواب؛ جثة عملاقة بيضاء ملقاة بين العلف والروث.

هيكلها العظيم يوحي بالخلود، سلبيتها المتهافتة تشهد بالفناء، وفوقها يتشبع الجو على ضوء المشاعل بالسخرية المرعبة«. هكذا قضى جلال الناجي المتطلع إلى الخلود وهو في عنفوان شبابه، وعمّر أبوه عبد ربه الفران مئة عام!

في كتابه»السموات على الأرض: البحث العلمي عن الآخرة والخلود واليوتوبيا«، يقول الصحفي الأميركي المختص في العلوم وتاريخها، مايكل شيرمر، إنه بالنظر إلى معدل التقدم الذي حققته حكومات البروتوبيا، التي تهدف إلى تحسين حياة الناس بشكل تدريجي، ربما لا نضطر إلى التخلي عن أحلامنا الإنسانية بالخلود، بل نعمد ببساطة إلى تعديلها.

هناك احتمال كبير أن يصل البشر إلى الكواكب الأخرى على مدى القرون القليلة المقبلة، ما يضمن أن أسلافنا سيستمرون، ربما إلى أجل غير مسمى، إذا حدث شيء كارثي جعل الأرض غير صالحة للسكن. ويعترف شيرمر:»ربما يكون من المبالغة القول إن هذا الشكل من خلود الأنواع يرضي رغبتنا الشخصية في العيش إلى الأبد، لكن هذا شيء يستحق العمل من أجله.

ما بين حلم فتوة الحرافيش وأحلام غيره في الخلود ثمة رابط، لكنه رابط من ذلك النوع الذي لا يتعدى الهواجس، ومتى كانت الهواجس تضع قوانين الكون، وتكشف للباحثين عن الخلود سره المفقود؟

 

 

Email