الحوار السياسي والاعتراف

ت + ت - الحجم الطبيعي

ولد الحوار بولادة الاختلاف، والاختلاف على أنواع، فمنه اختلاف سلمي، ومنه تناقضي ومنه اختلاف تضادي ومنه اختلاف صراعي. ولكل نوع من هذه الأنواع طريقة في الحل، وفقاً للموضوع المختلف عليه، ودرجة الإيمان به وطبيعته. فقد يتعين الاختلاف الايديولوجي والمذهبي بكل أنواع الاختلاف التي ذكرت، وهكذا.

وأنا هنا لا أتحدث عن الاختلاف بين الأفراد، بل عن الاختلاف بين الدول والجماعات، وبخاصة الاختلاف السياسي، الذي يبدأ من اختلاف بسيط يُحل بالمشاورات إلى اختلاف معقد يفضي إلى الحروب.

جوهر الخلاف السياسي هو الخلاف بين طرفين أو أكثر على السلطة والحق. في الخلاف المجتمعي حول السلطة والحق فإن طبيعة السلطة وممارسة الحق والواجب تحدد أدوات حل الخلاف. فالسلطة التي جاءت نتيجة عقد اجتماعي وممثلة للمجتمع وأفراده كافة، فإن الخلاف السياسي يُحل دستورياً وقانونياً وسلمياً، أي عن طريق الحوار، الحوار هنا ثمرة اعتراف متبادل خارج أي نوع من أنواع النفي.

وعلى العكس من ذلك، كلما كانت السلطة ثمرة الغلبة العسكرية والقوة الأمنية وذات طابع استبدادي مطلق أو شبه مطلق، فإن الخلاف السياسي يتحول إلى صراع، صراع قد يقود إلى تضاد غير قابل للحل، ويقود إلى أنماط من العنف المتبادل قد يصل حد الحروب الأهلية. يكون فيها عنصر الاعتراف غائباً بشكل كلي. وبالتالي يكون الحوار مستحيلاً، إذ لا حوار بلا اعتراف.

ولكن الاختلاف بين الدول أكثر تعقيداً لأنه اختلاف جوهره المصالح والسيادة. لا شك بأن دول العالم مختلفة في درجة القوة الاقتصادية والعسكرية والعلمية والثقافية، وهذا الاختلاف موضوعي، ولا يقود بالضرورة إلى تناقض أو تضاد أو صراع، ولا يلغي الاعتراف. ولكنه إذا ما تحول الاختلاف على السيادة على أرض واقعة على حدود مشتركة إلى إلغاء الاعتراف، فإن هذا يعني تحول الاختلاف إلى صراع يقود إلى الحرب.

فمازالت مسألة كشمير بين الهند والباكستان صراع يحتفظ بإمكانية الصدام المسلح مثلاً. وقد قاد الاختلاف بين بريطانيا والأرجنتين على جزر الفوكلاند إلى قيام حرب بين البلدين عام 1982.

أما الاعتداء على سيادة الدول بدافع أيديولوجي، والعبث بالسلم الأهلي والاجتماعي فإنه يلغي واقعياً مبدأ الاعتراف حتى لو ظل الاعتراف شكلياً، ويصعب عندها تحول الحوار إلى طريقة لنزع خطر تحول التناقض إلى صراع مادي. لأن الأمر يصل حد العدوان. ولا يكون الحوار وسيلة حل واتفاق إلا إذا انتفى العدوان.

ولكن هناك نمط من الاختلاف بين دول أساسه النزعة نحو الهيمنة السياسية والاقتصادية. فلقد كان الاختلاف بين الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة على أشده لاقتسام النفوذ. صحيح بأنه اختلاف وصل حد التناقض، ولكنه بقي في حقل الاعتراف المتبادل، وعدم تجاوز الخطوط الحمر التي رسمتها يالطا.

وظل الحوار وسيلة في حل المشكلات، وهذا ما عبر عنه في تلك المرحلة بالخط الساخن. ولهذا سمي التناقض بينهما بالحرب الباردة، فلقد حالت الأسلحة النووية التي يمتلكانها بينهما وبين الحرب.

والحق إن العالم يشهد اليوم فوضى في العلاقات الدولية، كما يشهد عجز الأمم المتحدة عن حل المشكلات التي تهدد حياة البشر. وليس إدارة الأزمات في ظل الصراعات نوعاً من الحوار. لأن إدارة الأزمة هو اعتراف بالأزمة وليس اعترافاً بالسيادة والحق. وينتاب أهل الفكر والسلام شعور بأن العالم في خطر، إذا لم ينتصر مبدأ الاعتراف والحوار لحل مشكلات العالم.

فلقد اتجه العالم بعد الحرب العالمية الأولى للسلام وأسس عصبة الأمم المتحدة عام 1919للحفاظ على السلم العالمي، وكانت تعني بالنسبة للدول المنتصرة في الحرب الاعتراف والحوار بين الدول، ولكنها لم تمنع من قيام الحرب العالمية الثانية، وما جرته على البشرية من قتل ودمار، والتي قادت دول الحلفاء المنتصرة إلى إنشاء الأمم المتحدة عام 1945، والتي جاء في ديباجتها إنقاذ البشرية من ويلات الحرب، والإيمان بحق الإنسان وكرامة الفرد، والتسامح والعيش بسلام وحسن جوار، وعدم استخدام القوة إلا للمصلحة المشتركة.

ومع ذلك فإن هذا الميثاق وبعد ثلاثة وسبعين عاماً على صدوره لم يحل دون الحروب واستخدام القوة في غير موضعها. ويبدو بأننا نحتاج إلى عقل جديد لإنتاج هيئة للأمم جديدة في هذا العالم المتوتر ذي الصراعات التي تنذر بالخطر.

* كاتب فلسطيني

Email