اللائيون

ت + ت - الحجم الطبيعي

تقول اللغة عن «لا»، بأنها حرف أو أداة. ويقول ابن منظور في لسان العرب، الأَداة التي تسمى الرابِطةَ، لأَنها تَرْبُطُ الاسمَ بالاسم والفعلَ بالفعل، كعن وعلى ونحوهما، قال الأَزهري:

كلُّ كلمة بُنِيَتْ أَداةً عارية في الكلام لِتَفْرِقَة المعاني واسمُها حَرْفٌ، وإن كان بناؤها بحرف أَو فوق ذلك، مثل حتى وهل وبَلْ ولعلّ. والأدوات هذه المتكونة من أكثر من حرف، عوملت معاملة الحرف، لأنها فاقدة المعنى إذا جاءت مستقلة.

لا يجري حديثي عن «لا» هذه، بل عن «لاء» أو عن اللاء بوصفها اسماً دالاً على الرفض، وليس حرفاً وأداة. وإن تكدر خاطر مدرسي اللغة العربية من قولي هذا، فإني أحيلهم إلى قول الفرزدق:

ما قال لا قط إلا في تشهده لولا التشهد كانت لاؤه نعم.

بل البيت تأكيد لما ذهبت إليه. فقد عوملت اللاء معاملة الكلمة - الاسم. اللاء هنا اسم يفيد معنى الرفض، فلا هي لا الناهية أو النافية، ولا هي حرف جزم، ونعم هي الأخرى عوملت معاملة الاسم. فصار من الصحة أن ندخل أل التعريف على لاء ونعم، وأل التعريف لا تدخل إلا على الاسم. وعندها تصبح اللاء صفة للموصوف: لائي. ودخول الهمزة على لا، غيّر من وظيفتها وطبيعتها تغييراً كلياً، وحولت لا من حرف إلى كلمة.

فاللائي، هو الكائن الذي يقول لا. ماذا يعني أن يكون المرء لائياً؟.

هناك أربعة أنواع من اللاء: النوع الأول، هي اللاء المتمردة على الشر العام والكلي، الشر المتعلق بالاعتداء على الإنسان. هذه اللاء مشتركة بين جميع البشر من جهة، ولكن البشر اللائيين هنا، لا يسلكون دائماً من وحيها.

وهي أيضاً لاء الفيلسوف، الذي يجعل من الشر موضوع نقد وفضح وتحليل، ليقول للناس لا ترتكبوا الشر. وهذا النمط من اللائيين، هم الذين ينتجون النص الفلسفي عن الشر، أو يشيدون فلسفة الرفض والتمرد، كنيتشه وسارتر وكامو.

وهناك اللاء المتمردة على الوضع: وهذه اللاء على نوعين: اللاء الرافضة للوضع انطلاقاً من الرغبة بالعودة إلى القديم ورفض أي جديد. واللائيون هؤلاء كائنات من كل أنواع الأجيال القديمة، التي لا تتصور تغير الأحوال.

في مقابل هؤلاء، هناك اللاء المتمردة على الوضع بالمعنى التجاوزي الأرقى. واللائيون المنتمون إلى هذا الصنف من اللاء، هم فاعلون إيجابيون، أحرار من قيود الحاضر والماضي. ومستقبليون بالمعنى الإيجابي. ويكون منهم رجال دولة وفكر وسياسة. وهذا هو النوع الثاني من اللائيين.

أما النوع الثالث: فهي اللاء العدمية المطلقة. هي لاء عبثية، تنطلق من مفاهيم اللا جدوى واللا معنى، متشائمة. والصنف المنتمي لهذه اللاء، سلبيون تجاه كل ما يجري في العالم وفي مجتمعاتهم، وينظرون إلى الحياة بوصفها مهزلة.

فيما النوع الرابع من اللاء، هو النوع الذي لا يفكر إلا بعالمه الجزئي. حيث اللاء هنا مرتبطة بتحسين حياته، ورفض وضعه الخاص. وهؤلاء اللائيون عامة الناس الذين يتوسلون الخلاص الفردي فقط، وليس الخلاص الكلي. وتحسين وضعهم الخاص فقط، أو زيادة سعادتهم. وهؤلاء اللائيون، لا علاقة لهم بالشأن العام، ويميلون إلى حياة الهدوء والسكينة.

بقي أن نقول بأن الفاعلين الإيجابيين السياسيين والاجتماعيين والفكريين والعلميين والاقتصاديين والإبداعيين، هم اللائيون الذين ينتمون إلى النوع الأول، وإلى الصنف الثاني من النوع الثاني.

صحيح أن كل لاء هي سلب، لكن السلب هنا إيجاب، لأنه سلب لواقع، لقاء الإيجاب لواقع متجاوز أرقى.

إن اللائيين الإيجابيين، لا يمكن أن يمارسوا دورهم إلا في ثلاثة شروط: الحرية، الحق في النقد، ورسم صور المستقبل المنشود دون تحفظ. وذلك كل في حقل العالم المنتمي إليه.

وإذا كان الفلاسفة يشتطون أحياناً لرسم صورة زاهية لمستقبل البشرية، ويدعون إلى أوتوبيا - مدينة فاضلة كالفارابي وأوين وماركس، فإن اللائيين الفاعلين الإيجابيين، يتمتعون بدرجة عالية من الواقعية، أو يجب أن يتمتعوا بالدرجة العالية من الواقعية، الواقعية التي تجد العلاقة بين الممكن والواقع، الممكن الذي يعيش في قلب الواقع، ويحتاج إلى الإرادة لكي ينتقل إلى الحياة.

 

Email