التفكير المعاق

ت + ت - الحجم الطبيعي

قالت العرب في معنى فكّر: أعَملَ العقل في المعلوم للوصول إلى معرفة المجهول. وهو تعريف مجرد جامع مانع. ولكن شرحه يطول.

فلما كان مراد التفكير الوصول إلى معرفة المجهول تأسيساً على المعلوم، فيجب أن يكون المعلوم معرفة جرى التحقق من تطابقها مع الوقائع، وأخذت طابع اليقين. أما إذا انطلق التفكير من مقدمات خاطئة وغير عقلية، وجميع الناس، من حيث المبدأ، ينطوون على إمكانية التفكير، بمعزل عن درجة الصحة والخطأ. فالخطأ في التفكير مختلف عن الخطأ في نتائجه، فأخطاء التفكير قد تنتج عن فقر في الوقائع، وليس في طرق التفكير. ويظن بعض الناس انهم يفكرون وهم لا يفكرون. ومعنى انهم لا يفكرون انهم لا ينطلقون من الواقع أولاً، ولا من الممكن الذي يختزنه الواقع ثانياً. فالممكن الحقيقي غير موجود إلا في الواقع الحقيقي وليس في الواقع المتخيل.

فالممكن الواقعي لا يتحقق إلا إذا أصبح ممكناً عقلياً ووراءه إرادة تفكر. والتفكير بممكن ناتج عن واقع متخيل هو أمر مستحيل.

فبعض السياسيين في إسرائيل، مثلا، يعتقدون بأنهم قادرون على البقاء في دولة وسط العرب، ومعادية للعرب وللفلسطينيين إلى الأبد. هذا الواقع المتخيل لوجودهم يخلق لديهم الممكن المتخيل.

وهناك جمهور من الناس، بل ودوّل، تتعامل مع الواقع والمستقبل انطلاقاً من الزعل التاريخي، وبالتالي تسعى للثأر من التاريخ عبر الثأر من الواقع. وهذا أمر لا ينجب إلا دماء لا قيمة لها في صناعة التاريخ.

كل من يزعل من التاريخ ويعتقد بأنه قادر على صناعة تاريخ تأسيساً على هذا الزعل التاريخي لا يفكر. وهناك ما هو أكثر من ذلك، نقول للذين يعتقدون بأنهم يسعون لإعادة تاريخ قابع في الذاكرة بأنهم لا يفكرون.

وهناك مصادفات كثيرة في التاريخ، والمصادفات جزء لا يتجزأ من حركة التاريخ نفسها، وبخاصة مصادفات صعود هذا الحاكم بعينه أو ذاك إلى صناعة القرار، وبعضها تجري مجرى المتصالح مع حركة الواقع ومنطقه، وهي مصادفات محمودة، وبعضها مصادفات مزعجة متناقضة مع روح التاريخ ومنطقه، وكل جماعة أقلية ولديها عصبية أقلوية جاءت بها المصادفات المزعجة إلى سدة السلطة، وتظن بأنها قادرة عبر احتكارها للقوة على الاحتفاظ بالسلطة رغم أنف الأكثرية، جماعة لا تفكر.

وكل كائن يعتقد بأن عصبية أيديولوجية، قابلة لأن تظل مصدر فاعلية لزمن طويل سواء انتصرت أم لم تنتصر، وأن تحافظ على قوتها في غياب الشروط التي أنتجتها، كائن لا يفكر. وكل من يعتقد بأنه يستطيع أن يشذ عن منطق الحضارة المنتصرة عالمياً، ويعيش بمعزل عن حركة العالم، ويفكر بعُدَة مفهومية قديمة لا يفكر.

كل من يعتقد بأنه قادر على إيقاف مسار التغيرات المجتمعية والثقافية والحياتية، وكبت الحاجات الإنسانية المتوالدة من تقدم البشرية العلمي والاقتصادي لا يفكر.

كل من يفكر خارج العلاقات والترابطات السببية الواقعية والشروط المتبادلة وتحول النتائج إلى أسباب هي الأخرى وهكذا، لا يفكر. فالثورة التواصلية الرقمية أدت إلى سرعة التواصل بين الناس، والوصول السريع للمعلومة، هذه النتائج بدورها أدت إلى زيادة في المعرفة والثقافة لدى الفرد والمجتمع، والزيادة في المعرفة والثقافة ولدت تغير في الحاجات كماً وكيفاً، وهكذا. وكل من يصدر في سلوكه عن نزعة رغبوية فقط، دون أن يتساءل عن قدرته على تحقيق هذه الرغبة لا يفكر، فقد تكون الرغبات مجرد أحلام أو أمنيات فقط، وفاقدة لقوة صاحبها الضرورية التي تنقلها إلى الواقع. صحيح بأن وراء كل سلوك تكمن رغبة دافعة، ولكن الرغبة لا تتحقق إلا إذا كانت الشروط الواقعية متوافرة.

بقي أن نقول: كل حوكمة لا تفكر بسعادة الإنسان الذي تحكمه، وتجعل من الإنسان موضوع همها الأساس حوكمة لا تفكر. وكل تفكير لا ينطلق من تلك المقدمات التي ذكرت هو تفكير معاق. والنتائج الكارثية للتفكير المعاق لا تعد ولا تحصى، وأخطر نتائجه ما نراه في تلك المناطق من حروب أهلية كانت ثمرة من ثمرات التفكير المعاق. ولعمري بأن الإعاقة الجسدية أسهل على الإنسان، آلاف المرات، من الإعاقة العقلية التي لا يحس بها من يعاني من التفكير المعاق.

ألا فاعلموا. ‬

* كاتب فلسطيني

Email