الحقيقة ضالة العاقل ومبتغاه

ت + ت - الحجم الطبيعي

يقول الأديب الفرنسي أميل زولا «لو أخرست الحقيقة ودفنتها تحت الأرض فستنمو».

وإذا كانت الحقائق تغفل أو تحرّف بالكلام والشعر في العصور الماضية، فإن عصر التكنولوجيا الحالي وما أوجده من مخترعات صار أقدر على تزييف الحقائق وإلباسها أقنعة، فلا يصل القارئ أو المشاهد إليها، بل تخدعه بسحرها لتغير رأيه أو قناعته، وإن لم تغيّر من قناعاته فهي تهزها هزاً ولا يسلم من تأثيرها إلا ذو عقلٍ سليم وذو وعيٍ وخبرة.

ومهما كانت قوة الدعاية أو الإعلام المفبرك أو المغلف بشتى الأقنعة فإن الاحتكام للعقل يحيلنا للبحث عما وراء ذلك القناع، والدوافع والنوايا التي تجعل من الأبيض أسود ومن الأسود أبيض وكثيرة هي الشواهد في حياتنا.

ومن العرب الذين رفعوا مكانة العقل وسفهوا الباطل والخرافة وما لا يعقله العقل، الفيلسوف والأديب الجاحظ، فقد رفع لواء العقل وجعله الحكم الأعلى في كل شيء بعد الكتاب والسنة ورفض من أسماهم بالنقليين الذين يلغون عقولهم أمام ما ينقلونه وما يحفظونه من نصوص القدماء.

وقد وقف الجاحظ أمام أرسطو عقلاً لعقل ولم يقبل كل طروحات أرسطو التي كانت سائدة وهو يسميه (صاحب المنطق)، فيقول «زعم صاحب المنطق أن قد ظهرت حية لها رأسان، فسألت أعرابياً عن ذلك فزعم أن ذلك حق (أي حقيقة)، وأقول لأرسطو، لو هذا حقاً فمن أي جهة الرأسين تسعى؟

ومن أيهما تأكل وتعض؟ فقال، فأما السعي فلا تسعى ولكنها تسعى عن حاجتها بالتقلب كما يتقلب الصبيان على الرمل، وأما الأكل فإنها تتعشى بفم وتتغدى بفم، أما العض فإنها تعض برأسيها معاً» وكان تعليق الجاحظ عليه: «هذا هو أكذب البرية».

وكان الجاحظ يؤمن بالشك الذي يؤدي إلى اليقين عن طريق التجربة، وناظر أرسطو حين قال أرسطو «العصافير أطول أعماراً وإن ذكورها لا تعيش إلا سنة واحدة» فانتقده بشدة لأنه لم يأت ِبدليل على ذلك ولامه لأنه لم يقل ذلك على وجه التقريب بل على وجه اليقين.

وكان يرفض الخرافات كلها، وينتقد من يرويها من العلماء أمثال أبي زيد الأنصاري فيقول: «إن أبا زيد ثقة، لكنه ينقصه النقد لأمثال هذه الأخبار التي يرويها عن السعالي والجن، وكيف يراهم الناس ويتحدثون إليهم ويتزوجون منهم وينجبون».

وها نحن اليوم نواجه عبر التكنولوجيا ووسائل التواصل منها أمواجاً تتلاطم من الأخبار والموضوعات والأفلام، البعض معروف الهدف والغاية والبعض الآخر يخفي حقيقته وراء قناع أو أقنعة فيظهر الود أو البراءة، ولكنه يحمل السم القاتل.

ومن يتابع سيدرك أن هناك جيوشاً من المرتزقة تقف وراء هذه الموجة أو تلك لإحباط الإنسان العربي وتيئيسه، أو لجرف الشباب العربي إلى متاهات الخرافة والجنس والتطرف والعنف والأغاني الهابطة والمتع الرخيصة، بنات كاسيات عاريات ونكات لاذعة وشعر فاشل وإشاعات وأكاذيب لا حصر لها وهلم جرا.

أصحاب العقول يدركون ما وراء ذلك فيتألمون، وأصحاب النوايا الطيبة يبررون وجيل من الشباب تحت خطر التذويب النفسي والحسي واهتزاز القناعات.

وكثيرة هي الصيحات والنداءات لحماية الشباب من تكنولوجيا الضياع وتحويلها إلى ما يفيد وغلق أبواب الشر بوجه من يحاولون استغلالها لأغراض تدمير الشباب العربي، كذلك دعت الندوات والمؤتمرات، ولكن ما زلنا نحتاج إلى تفعيل الجهود وصنع أمصال الحماية وفتح نوافذ للشباب العربي كي يستنشق هواء العمل المثمر والتعليم الجاد والإبداع والقراءة المستمرة.

ولصاحب السمو الشيخ محمد بن راشد، حفظه الله، مبادرات معلومة للشباب العربي في هذا الاتجاه منها (التحدي القرائي العربي) ومبادرة (صناع الأمل) وغيرها من المبادرات، ولي أن أتساءل، كم من القادة العرب عدا قادة دولتنا الإمارات قدم شيئاً من هذا للشباب العربي لحماية عقولهم وإضاءة دروب مستقبلهم بالقراءة والعلم؟

إن الموجات الهائلة من الإعلام المقنع والمفبرك والفارغ من الفضيلة والعلم والمعنى، ما زال ساري المفعول، فيا أصحاب العقول كلكم مسؤول، وها أنا أكرر ما قاله أحدهم إن السيل الذي يغمر بيت جاري سيهدم ذات يوم جداري.

 

Email