العرب والوعي الخلاصي

ت + ت - الحجم الطبيعي

منذ عصر النهضة وهزيمة مشروع محمد علي باشا، وحتى الآن، فإن المثقفين العرب غير راضين عن واقعهم، ويبحثون عن علة تخلفهم، ويفتشون عن سبل خلاص من هذا الواقع.

والحق أن مسار تاريخنا المعاصر لا يسر صديقاً ولا يغضب عدواً. فما إن انتهت الحرب العالمية الأولى، حتى وقعت أكثر الدول العربية تحت الاستعمارين البريطاني والفرنسي، ومع انتهاء الاستعمار، تكونت الدول، وضاعت فلسطين، ثم بدأت مرحلة الانقلابات العسكرية، التي انتهت بديكتاتوريات عسكرية دمرت البلاد والعباد، وجاء الاحتلال الأميركي للعراق، ويعيش العراق منذ عقدين من الزمن مآسي لم تخطر على بال، وانفجر ما يسمى بـ «الربيع العربي»، وانفجرت معه كل المستنقعات التي تكونت في زمن الدكتاتوريات، وحصل ما حصل في ليبيا وسوريا واليمن ومصر.

فضلاً عن التخلف العلمي والعوز الاقتصادي، وفشل التنمية في أكثر البلدان.

وفي البحث عن علة هذا الواقع، منا من راح يلقي باللائمة على الغرب، ونفر يحمّلون المشروع الأيديولوجي المسؤولية، وآخرون يتهمون الشروط الموضوعية، وفريق يشير إلى بنية العقل العربي، وجماعة ترى العلة في الارتداد عن الإسلام.

ومهما كانت الأجوبة، من حيث اختلافها صحيحة أو خاطئة. فإنها ولا شك تنطوي على مشروع بديل، وإنها لدليل على أن التاريخ المعيش مرفوض، ولم ينجب حتى الآن اقتناعاً به، ولا أعتقد أنه سينجبه إطلاقاً.

فلقد دعا عبدالله العروي إلى استيعاب منجزات التقديم الليبرالي، ونادى حسن صعب بتحديث العقل العربي، والانتقال من صناعة الكلمات إلى صناعة الأشياء، وصرخ حافظ الجمالي، الإنسان أولاً، ونشط الكثيرون لاستحضار التراث وتجديده، لإحداث ثورة ثقافية تصل الماضي بالحاضر، ويهيب عباسي مدني بالإسلام، لاستعادة الفردوس المفقود، وراح محمود أمين العالم يبشر بالثورة الاشتراكية، وتتعالى صيحات الدعوة إلى الديمقراطية، وأخيراً، يطل علينا بعضهم قائلين: العلمانية العلمانية.

وهكذا نجد جهازاً من المفاهيم الجديدة القديمة حاضرة في الخطابات العربية السياسية -الاجتماعية والفلسفية الراهنة، تحديث العقل، الليبرالية، الإنسان، الاشتراكية، الديمقراطية، العلمانية، التراث، الحل الإسلامي، خطابات تتجه نحو المستقبل لصياغة مشروع أو مشاريع لمواجهة التاريخ.

ولا شك أن انفصالاً بين الخطاب الراهن والخطاب الحديث والمعاصر، لم يقم حتى الآن. والملاحظ أن كل ما سبق من شعارات وأيديولوجيات، هي أنماط من الوعي الخلاصي. ومن سمات الوعي الخلاصي، أنه إيماني، ولا يلتفت إلى الزمن، ولا إلى الواقع. الوعي الخلاصي وعد جميل وساحر ومغرٍ، ولكنه رومانسي، ليس إلا.

ولقد كنت واحداً من هؤلاء الخلاصيين المؤمنين بأن الإرادة قادرة على تكسير رأس التاريخ. إلى أن أيقظتني الفلسفة.

والحق أن النزعة الرغبوية التي تنطوي عليها أي أيديولوجيا دون المعرفة بالواقع والإمكانات التي ينطوي عليها، والإرادة الضرورية لانتصار الممكن، هذه النزعة الرغبوية، لا تنجب إلا الوهم، وقد تنجب صراعات زائفة غير مثمرة.

ما يجب الاحتفاظ به هو التالي: عدم القبول بالواقع الراهن الذي نعيش، ولكن عدم القبول هذا، انطلاقاً من أننا يمكن أن نعيش في عالم أفضل، تتوافر شروطه الموضوعية داخل الواقع نفسه، ولكن تغيير الواقع الراهن، يجب أن ينطلق من الواقع وفهمه وتحليله، وليس من الرغبة الطوباوية في صناعة ما لا يختزنه الواقع في أحشائه.

فالعرب مجموعة من الدول، هذا واقع لا سبيل إلى إزالته. وكل دولة ذات مشكلات خاصة بها، وهناك مشكلات مشتركة.

أمامنا أمران أساسيان، يجب أن تفكر بهما كل دولة: مكانة الإنسان في الدولة، والتنمية المرتبطة بالحياة وحب الحياة. يحدد هذان الأمران، جميع المشكلات التي تصدر عنهما. إذا لم ينطلق التفكير من هذين الأمرين، سنعود مرة أخرى إلى الأيديولوجيات الخلاصية، التي، على ما أعتقد، قد انهزمت إلى الأبد. والتعاون بين الدول العربية، يجب أن ينطلق من هذين الأمرين، وطرق الإجابة عن الأسئلة المتولدة عنهما. هذا هو الفرق بين المدخل الواقعي والمدخل الأيديولوجي السابق في التفكير.

Email