الدولة كبنية.. مقدمة منهجية

ت + ت - الحجم الطبيعي

جاء حين من الدهر نظر فيه بعض المفكرين الاجتماعيين إلى المجتمع نظرة بيولوجية، أي أنه شبيه بجسد الإنسان ووظائف أعضائه المتكاملة، والتي لا يمكن عزل عمل عضو من أعضائه عن عمل ووظيفة غيره من الأعضاء.

ثم تعمقت هذه النظرة وتبلورت بازدهار المدرسة البنيوية والوظيفية للمجتمع التي لم يعد أحد بقادر على فهم المجتمع والدولة وأية ظاهرة سياسية واجتماعية وثقافية دون الأخذ بعين الاعتبار هذا المدخل المنهجي للفهم.

فالدولة بحد ذاتها بنية من جملة عناصر مترابطة في وظائفها. وهذا يعني بأنها نظام متكامل، وغياب النظرة المتكاملة للدولة يعرض الدولة للأزمات التي إذا لم يُنتبه لها تتحول إلى مآزق تنذر بأخطار غير محمودة النتائج.

فالدولة ككيان كلي، كما أشرنا، يتكون من بنيات مترابطة تشكل عناصرها الوظيفية.

السؤال الأساسي لكل دولة هو: كيف يمكن الحفاظ على الدولة بوصفها كياناً يجب أن يتمتع باستقرار وأمان وينجب الشعور بالولاء والانتماء لدى مواطني الدولة.

هذا السؤال هو السؤال الذي يؤسس لاستراتيجيات الدول أجمع، وفق مكانة الدولة وقوتها. وتختلف الإجابة عنه من دولة إلى أخرى. فالاستراتيجية الأميركية جواباً عن السؤال مختلفة عن استراتيجية دولة كلبنان مثلاً، رغم وحدة السؤال. لأن الجواب لا يكون إلا على قد الممكنات التي تنطوي عليها الدول.

إذا كان الاستقرار والأمان والولاء والانتماء الهدف الأساسي لكل دولة، وهو كذلك، فإن جميع عناصر الدولة الوظيفية، أي البنيات الأصغر، يجب أن تعمل متكاملة من أجل تحقيق هذه الاستراتيجية.

فالاستقرار والأمان كاستراتيجية كبرى مترابطان باقتصاد يحقق الأمن الغذائي والصحي، ومترابطان، بتحقيق فرص العمل، ومترابطان بأجهزة الحماية وبالقانون والقضاء، وبوجود ثقافة مجتمعية تخلق الشعور السعيد بالانتماء والولاء، وبعلاقات دولية قائمة على فكرة السلم والمصالح المتبادلة.

ربما لا تجد هذه البنية تحققها في الواقع بصورتها المثلى، لأسباب كثيرة، ولكن يجب أن تكون حاضرة في وعي مؤسسة الدولة ونخبها.

فدولة يعيش أكثر من ستين بالمائة من مواطنيها تحت خط الفقر، في ظل فساد مالي وإداري، لا يمكنها أن تحلم باستقرار وأمان، حتى ولو كانت أجهزة القمع قادرة في لحظة من اللحظات على منع الانفجار المجتمعي. وقد يتراخى عنصرا الولاء والانتماء إلى الحد الذي ينذر بخراب كبير. وهكذا فالبنية السياسية والبنية الاقتصادية والبنية الأمنية (الجيش والشرطة وأجهزة الأمن) لا يمكنها أن تعمل بمعزل عن بعضها البعض. وهذه البنى نفسها لا تنعزل عن بنية التعليم والتثقيف. وتحقيق الاستقرار والأمن والولاء والانتماء على ترابط شديد بقدرة الدولة على تحقيق التناسب بين الحاجات المجتمعية، أفراداً وجماعات.

فالحاجات تنمو على نحو دائم، وهذا بدوره يفرض على البنى جميعها أن تلاحق هذه الحاجات ونموها وجديتها ووضع الخطط اللازمة القادرة على تلبيتها، أو تلبية الجزء الأكبر منها. أما إذا اتسعت الهوة بين نمو الحاجات المادية والمعنوية وعجز الدولة عن تلبيتها فإن الضعف سينال جميع البنى بلا استثناء. وهذا الذي ذكرنا يجب أن يشكل ذهنية نخبة الدولة انطلاقاً من مبدأ مهم جداً في النظرة إلى الممارسة، ألا وهو مبدأ العلاقة الترابطية بين الإمكانية والواقع.

فلكل دولة من دول الأرض لديها إمكانيات محدودة وفق تطورها وسكانها واقتصادها وثقافتها وقدراتها. ولا تستطيع أن تتخطى هذه الإمكانيات، وإلا واجهت مشكلات لا سبيل إلى حلها.

وفي هذا الإطار فقد ترتكب الدولة خطأين في التقدير: إما خطأ سوء تقدير مبالغ فيه للإمكانيات إلى حد توهم إمكانية فتذهب إلى مغامرة غير محمودة النتائج، أو خطأ في عدم رؤية الإمكانيات المتوافرة وعدم استغلالها، فتفقد الدولة عنصرا من عناصر قوتها.

وعندي بأنه ضمن هذه الرؤية يجب أن تفكر الدول.

Email