شاهد القبر

ت + ت - الحجم الطبيعي

في التخطيط الإداري، نسأل القيادي سؤالاً بديهياً: ماذا تريد أن يكتب على شاهد قبرك؟، أول ما يتبادر إلى ذهنه، هو مشروعه الأسمى، غالباً. مثل كان فلان أو فلانة بارعاً في كذا، أو قدم كذا، أو ناصر أو كان أول من تصدى لكذا. لا يهم حجم ما نقدم، بقدر البدء «بتفريغ» كل ما في جعبتنا لنفيد أنفسنا ومن حولنا معنوياً أو مادياً.

وهنا أتذكر قصة المدير الأميركي الذي سأل أحد زملائه في اجتماع عمل: «ما أثمن أرض في العالم؟». فبدأت تأتيه الإجابات، فمنهم من قال: «إنها أرض الخليج الغنية بالنفط»، ومنهم من قال «أراضي الألماس في أفريقيا».

فقال المدير: «إجاباتكم خاطئة. إنها المقبرة!»، فبدأ يشرح لهم أن المقابر فيها ملايين الناس ممن قضوا نحبهم، وهم ما زالوا يحملون في جعبتهم الكثير من الأفكار الثمينة التي لم ترَ النور بعد.

ولحسن الحظ، كان أحد المستمعين بالصدفة، المؤلف الأميركي الشاب تود هنري، الذي أعجبته الفكرة كثيراً، ثم أطلق كتابه الشهير «مت فارغاً» أو Die Empty، حيث وضع فيه أفكاراً عملية تساعد الفرد على أن يفرغ يومياً ما في جعبته من طاقات وأفكار ومعلومات مفيدة له ولمجتمعه.

لا يمكن أن نفرغ ما في جعبتنا، ما لم نخطط بالطريقة الصحيحة. من هنا، كنت في غاية السرور، حينما قرأت أمس إعلاناً في الصفحة الأخيرة لـ"البيان"، تعلن فيها حكومة أم القيوين عن رؤيتها. إذ تتطلع إلى «جودة حياة عالية، لمجتمع متلاحم، مبني على اقتصاد مستدام، وسياحة جاذبة».

ثم بسطتها عبر رسومات إنفوغرافيك إلى خمسة محاور. لمن درس التخطيط أو مارسه في الشركات الكبرى، يدرك أن من الرؤية تنبثق كل الأهداف الذكية والرسالة والجدول الزمني. وهذه نواة لأي تخطيط مؤسسي، وربما فردي.

فلا يهم حجم التخطيط، بقدر تماشيه مع موارد الشركة أو الحكومة وتطلعاتها المشروعة والمعقولة. فلا يعقل أن تكتب جهة خاصة أو عامة، مثلاً: نريد أن نتملك كل الشركات المدرجة في أسواق نيويورك ولندن خلال ثلاث سنوات.

هذا الهدف أو الرؤية، ستثير السخرية، لعدم واقعيتها، وشدة تعقيداتها، فضلاً عن أنها لا تتماشى مع مواردها المتاحة. إذن، حجم التخطيط ليس هو المحك، بل البدء في رحلة تفريغ طاقات القوى البشرية العاملة، والأهم قادتها لتحقيق الرؤية بأسرع وقت ممكن.

ولأكون صريحاً، كم من السنوات أهدرناها، في الخليج تحديداً، لأننا لم نخطط بطريقة صحيحة. ولما بدأنا نسمع عن رؤية الإمارات 2021، ورؤية السعودية 2030، والكويت 2035، بدأت الحكومات تتحرك على نحو صار يحمس دولاً من خارج الخليج، لأنهم بدؤوا يشاهدون مشاريع ملموسة، وأرقاماً محددة لمواعيد افتتاح مشاريع عملاقة.

وهذه أكبر هدية يمكن أن تقدمها الشعوب وقادتها للأجيال القادمة، حينما نشكل جميعاً هديراً هائلاً من العمل الجماعي الممنهج في كل مجال، لنفرغ فيه كل طاقاتنا. فكم من موهوب مغمور، لم يجد في القطاع العام أو الخاص، في السنوات الماضية، من يقدر ذروة عطائه قبل أن يفارق الحياة، ولم يعد يتذكره سوى أقرانه الذين كان يعتبر بالنسبة إليهم المعلم الملهم والمتفاني.

ولذا، قال مؤلف الكتاب تود هنري «لا تذهب إلى ضريحك وأنت تحمل في داخلك أفضل ما لديك. اختر دائماً أن تموت فارغاً». وهذه قمة العطاء والتفاني. ولذا، تقف الشعوب وقفة اعتزاز وإجلال، أمام قبور قادتها الشامخة، لأنهم أفنوا حياتهم لمجد الأمة.

 

 

Email