قول في الفردية

ت + ت - الحجم الطبيعي

شاع القول الأرسطي الشهير، بأن الإنسان كائن اجتماعي، حتى صار هذا القول تعريفاً لماهية الإنسان. ولم يختلف الأمر عند الفيلسوف وعالم الاجتماع العربي الفذ ابن خلدون، والذي أضاف، وإذا كان الإنسان اجتماعياً بطبعه، ومتميزاً بالعقل، ولديه من حاجات الحياة المعروفة والضرورية لبقائه، ما لا يستطيع أن يلبيها بمفرده، ولهذا، كان التعاون داخل الجماعة، والتي كثمرة من ثمار تعاونها، أنتجت الحضارة.

ولما كان الإنسان الفرد مفطوراً على العنف، فكان لا بد لقوة تلجم عدوان الإنسان على أخيه الإنسان، وتمنع الصراعات والاقتتال بين أبناء المجتمع، وقد تمثلت هذه في ظهور الدولة. فالدول، هي عقل الجماعة، وهي ضرورية، كما أشار الفيلسوف الإنجليزي توماس هوبز فلسفته في كتابه التنين في القرن السابع عشر، والذي اعتبر أن الإنسان ذئب في طبيعته.

لكن الإنسان فرد في جماعة، فهل تنفي روحه الجماعية روحه الفردية؟

دعوني من عرض المذهب الفردي فلسفياً. وأذهب إلى البسيط. فلكل إنسان خصوصيته في الحياة، أفكاره، قيمه الخاصة، طريقة وجوده، حرية التعبير العملي والنظري عن هذا الوجود، من دون أي اعتداء على الآخرين وإيذائهم، وتأسيساً على ذلك، لا يحق لأي فرد أن يعلن عن نفسه سلطة على آخر، ولا يحق لجماعة أن ترسم للفرد الدروب التي يجب أن يسير عليها الفرد، إلا تلك القوانين التي تسنها الدولة للحفاظ على الحق والحياة والحرية والنظام الضروري لذلك.

ولو تأملنا كل القوانين المعاصرة للدول، مع استثناءات لبعض قوانين الدول المستبدة، لوجدنا أن جميع هذه القوانين، إنما استُنت من أجل مصلحة الفرد. من قوانين الملكية، إلى قوانين البيع والشراء، إلى قوانين السير، إلى قوانين العمل، إلى قوانين حرية الصحافة والتعبير... إلخ.

جميع هذه القوانين تخدم حماية الفرد من الاعتداء، وحماية كل فرد من الاعتداء، يعني حماية المجتمع نفسه. بل إن فكرة المساواة بالحق، تأكيد على فردية الإنسان.

وتأسيساً على ذلك، فإن كل خطاب عن الدولة والحرية والحق، يصدر عن أيديولوجيا، لا يتضمن الفرد وقيمته والاعتراف بحقه، خطاب كاذب. بل إن السلطة المستبدة، هي مستبدة لأنها تصادر الخيارات الفردية، سواء كانت خيارات سياسية أو أخلاقية أو فلسفية أو دينية.

صحيح أن أفراد المجتمع مختلفون في الإحساس بفرديتهم وحدودها، لكنهم جميعاً لديهم شعور بالفردية.

ويجب ألا يتكدر خاطر المجتمع من المثقفين المبدعين، لأنهم من حيث المبدأ، أكثر الناس شعوراً بالفردية، التي تصل بهم إلى حد التناقض مع روح الجماعة وثقافتها التقليدية. فالمثقف المبدع، ليس فردياً بالضرورة فقط، وإنما المدافع بالضرورة عن الفردية، ويقف إلى جانب الفردية، بل وإذا لم تنتصر الفردية لديه كقيمة أساسية، تنقصه الصفة الجوهرية التي تجعل منه مثقفاً.

في انتصار الفردية، ينتصر الصدق والظهور الحقيقي للكائن، لأن الفردية هي الحرية في أعلى درجاتها. ولهذا، نجد الأيديولوجيات الشمولية، أيديولوجيات معادية للإنسان الفرد، ومدافعة عن القطيعية، وهذا الذي يقودها إلى العنف بحق الفرد وحق المجتمع.

ويكمن خطر الأيديولوجيا الشمولية، بأنها تسعى لجعل جميع الناس متشابهين، وهذا أمر محال. ولكي يصبح المحال هذا واقعاً في ظن سلطة الأيديولوجيا، يعول العنف والقمع الذي يصل حد قتل الفرد، بل إبادة جماعات من البشر.

والغريب في الأمر، أن الدولة الشمولية، ذات الأيديولوجيا الشمولية، تحسب بأنها قد انتصرت على المجتمع وأفراده، حين ترى الصمت واللا مبالاة قد سادا، دون أن تدري أن هذا الصمت وهذه اللا مبالاة، مقدمة لانفجار مريع.

وعندي، أنه لن يتحقق السلام والأمن والتسامح وسعادة المجتمع، جماعات وأفراداً، إلا بالتحرر من هذه الحركات العنفية الأصولية بكل أنواعها، والتي تفسد الأرض ومن عليها.

 

 

Email