بريطانيا بين الماضي والحاضر

ت + ت - الحجم الطبيعي

كانت بريطانيا معروفة بالإمبراطورية، التي لا تغيب عنها الشمس، بسبب اتساع حجم الأراضي التي كانت تسيطر عليها.

وكانت تتمتع بكل أنواع القوة التي تتمتع بها بصورة محدودة في الوقت الراهن الولايات المتحدة الأميركية، فقد كانت تتمتع بالقوة الاقتصادية والعسكرية والسياسية. ومن ينظر إلى وضع بريطانيا في عصرنا الحالي يندهش مما وصل إليه الحال في الداخل البريطاني، ووضعها على الساحة الدولية.

إن التاريخ يعلمنا أن الإمبراطوريات تبزغ ثم يأفل نجمها بعد حين، وإن كانت بريطانيا تتغني بالتاريخ وترى أنها لا تزال دولة قوية ولها كلمة مسموعة دولياً وذات مكانة اقتصادية قوية عالمياً، فإن الحاضر يعكس صورة ضعيفة لوضعها وتأثيرها من نواح عدة.

على المستوي الاقتصادي هبط ترتيب بريطانيا من خامس أكبر اقتصاد في العالم إلى المركز السادس بعد فرنسا في آخر تصنيف أواخر عام 2017. ويزداد وضع بريطانيا الاقتصادي تعقيداً بعد التصويت بالخروج من الاتحاد الأوروبي، وعدم حلحلة الوضع في مفاوضات الخروج بين الجانبين البريطاني والأوروبي..

بالرغم من قيام دول الاتحاد السبع والعشرين بالإقرار بوجود تقدم في المفاوضات للانتقال إلى المرحلة الانتقالية التي قد تستمر سنتين أو أكثر، لكن لم يتم الحديث عن مستقبل العلاقات الاقتصادية بين الجانبين وتم تأجيله.

وبالرغم من التنازلات الكبيرة التي قدمتها رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي مؤخراً ممثلة في الموافقة على دفع ما يقرب من 40 مليار جنيه استرليني كونها فاتورة للطلاق، والإبقاء على مواطني الاتحاد داخل بريطانيا ويزيد عددهم على ثلاثة ملايين شخص.

فلم تحصل بريطانيا في المقابل إلا على الإقرار بحدوث تقدم في المفاوضات، ولا توجد ضمانة لشروط مناسبة لمستقبل العلاقات التجارية بين الجانبين بعد الانفصال. يضاف إلى ذلك عدم قدرة بريطانيا على إجراء مفاوضات تجارية مع أطراف خارج الاتحاد خلال الفترة الانتقالية من دون إذن مسبق من الاتحاد، وخضوع بريطانيا لقوانين الاتحاد دون التصويت عليها. أين ذهبت الإمبراطورية القديمة؟

وكيف لا يقوم فريق التفاوض بقيادة دافيد ديفيس الوزير المسؤول عن ملف خروج بريطانيا من الاتحاد بلعب أوراق التفاوض بصورة صحيحة. هناك تاريخ لبريطانيا في الدبلوماسية والتفاوض،. ولكن من يحلل المفاوضات بين بريطانيا والاتحاد يشعر وكأن بريطانيا دولة ناشئة ولا تملك أدوات فعالة في اللعب مع المفاوضين الأوروبيين.

يذكر أن هناك انقساما ًداخل الحكومة البريطانية بين فريق الخروج الحاد بقيادة بوريس جونسون وزير الخارجية، وفريق الخروج المتدرج بقيادة فيليب هاموند وزير الخزانة.

يضاف إلى ذلك خسارة تيريزا ماي في التصويت على جعل 29 مارس 2019 قانوناً ولا يجب البقاء بعده في الاتحاد. وصوّت أعضاء من حزب المحافظين ضد مشروع القانون. وقد ضيع ذلك ورقة تفاوض هامة لبريطانيا بإمكانية الخروج من الاتحاد من دون التوصل لاتفاق.

وتقع اللائمة في ذلك على تيريزا ماي لدعوتها لانتخابات برلمانية مبكرة خسرت فيه الأغلبية التي كانت تتمتع بها في مجلس العموم. تجدر الإشارة إلى المشكلات الكثيرة التي يواجهها قطاع الخدمات (تعليم وصحة وإسكان ومواصلات) والضغوط الكثيرة على تلك الخدمات جراء تزايد المهاجرين إلى بريطانيا من جانب، وعدم وضع استثمارات تتماشي مع زيادة السكان.

على الجانب السياسي فإن بريطانيا تسير إلى حد بعيد في الركب الأميركي، وهي ذات تأثير محدود على الساحة الدولية في ملفات مثل سوريا والعراق وفلسطين وأفغانستان وكوريا الشمالية وغيرها من الملفات الساخنة. وعلى الساحة العسكرية، فقد صدرت تصريحات مؤخرة لعسكريين بريطانيين بأن بريطانيا قد تكون غير قادرة على مواجهة أي هجمات روسية ولاسيما في مجال القرصنة الإلكترونية.

بالرغم من ذلك كله فإن الصورة ليست قاتمة تماماً، فهناك بعض الجوانب المضيئة في بريطانيا المعاصرة، وأهمها مساواة الجميع أمام القانون، وحرية التعبير التي يتغنى بها الكثيرون في عالمنا، وتؤخذ بريطانيا كونها مثلاً في هذا الخصوص. إن حرية الفرد في التعبير عن نفسه ومعتقده دون مساءلة أو تعذيب قد تفوق جوانب سلبية كثيرة يكتظ بها المجتمع البريطاني. إ

ن إمكانية دفع الظلم والفرص العالية لتحقيق العدالة لا يساويها أي شيء آخر في الحياة. ومن هنا فإن غابت شمس الإمبراطورية الشاسعة، وغلب الضباب على أجواء بريطانية من ناحية الطقس ونواح أخرى عديدة سياسية واقتصادية واجتماعية، فهناك جو الحريات والمساواة والعدالة والحد الأدنى لمعيشة الفرد من خلال نظام المساعدات الاجتماعية، الذي تتمتع به البلاد.

 

Email