شرور الوعي

ت + ت - الحجم الطبيعي

نعرف الوعي بأنه جملة من المعارف والمعتقدات والرؤى التي يختزنها الفرد ويكتسبها عبر التعلم والتلقين والتي تتحكم بتفكيره بجملة مسائل تتعلق بالحياة وقضايا الخير والشر، وتفضي إلى سلوك عملي لحل المشكلات التي يراها.

والوعي على أشكال متعددة، فهناك الوعي الجمالي المتعلق بالجميل والحسن والقبيح، وهناك الوعي الأخلاقي المرتبط بالخير والشر، وهناك الوعي الأيديولوجي المرتبط بأمور السياسة والمجتمع.

وهناك الوعي الديني الذي يكتسبه الفرد والمتعلق بالإيمان الديني، وهناك الوعي السياسي المتعلق بالدولة والعلاقات الدولية والسلطة والحكم عموماً، وهناك الوعي العلمي الذي يرتبط بفهم الظواهر وتفسيرها بناءً على مبادئ العلم، وهناك الوعي الحقوقي المتخصص برؤية حق الذات وحق الآخر المرتبط بالقانون، وهناك الوعي الفلسفي الذي ينقل الفرد إلى قضايا الفهم الكلية والشاملة للوجود والمجتمع والتاريخ والمعرفة وهكذا.

إذا كان الوعي هو هذا، فماذا نقصد بشرور الوعي؟ إن الوعي بحد ذاته ليس خيراً أو شراً أو بين بين إذا ظل في حقل الوعي غير المرتبط بالسلوك، وبالفعل المادي على الأرض. ولكنه ينتقل إلى حقل الخير والشر إذا صار مصدر السلوك العملي.

والشر بالتعريف كل فعل من شأنه أن يلحق الأذى وصاحبه قاصد إلى ذلك، وهذا يعني أن كل وعي ينتقل إلى السلوك ويلحق الأذى بالناس هو وعي شرير.

فالعنصرية بالأساس شكل من الوعي المعتقدي - الأيديولوجي يقوم على الاعتقاد بتفوق عرق أو شعب على عرق وشعب آخر، وتصبح مصدراً للإيذاء. وهذا ما كان من عنصرية الأبيض تجاه الأفريقي في جنوب أفريقيا وما نتج عنها من سلوك التفاوت والاضطهاد واحتكار السلطة من قبل الأبيض. إذاً العنصرية وعي شرير، لأنه يصدر عنه سلوك يؤذي الآخر.

وهذا شأن الأيديولوجيا الصهيونية التي أدانتها الجمعية العمومية للأمم المتحدة، بوصفها شكلاً من أشكال العنصرية، تُمارس الشر على الفلسطيني. فالصهيونية وعي شرير.

وتأمل معي أيها القارئ كيف يتحول نمط من الوعي الديني إلى وعي شرير عبر التعصب والأصولية وتسييس الدين وارتكاب المجازر باسمه. فالمسيحية التي تقوم على فكرة الحب حوّلها الوعي الديني الصليبي في القرون الوسطى إلى أساس لخوض الحرب ضد الشرق الإسلامي وقتل الآلاف من الناس آنذاك، كما والإسلام الذي يعلن بأن لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما لا يحب لنفسه، تقوم جماعات ذات وعي ديني متعصب وباسمه بتخريب البلاد والعباد.

وقس على ذلك الوعي الديني اليهودي الذي يتناقض مع وصايا الدين اليهودي لا تقتل، وهذه الأنماط من الوعي شريرة تتناقض مع أسس الدين، شريرة لأنها تفضي إلى ارتكاب الأذى بحق الآخر. والوعي السياسي الذي يقوم على الغلبة وحق القوي بإيذاء الضعيف، هو وعي شرير، لأنه يسلب حق الفرد وحق الدول معاً.

وحتى الوعي الحقوقي يصبح وعياً شريراً إذا ميزت الدولة بين مواطنيها في الحق كأن يتمتع جزء من مواطنيها بحق لا يتمتع به جزء آخر.

ولما كان الفرد لا يُخلق وهو مخزن وعي، بل يكتسب الوعي عبر العيش في المجتمع وعبر الأسرة والمدرسة والإعلام والكتاب إلخ، فإن النظر في شروط تشكل الوعي أمر على غاية كبيرة من الأهمية، كما إن التأمل في وسائل نشر الوعي يسمح لنا بأن نفهم ونفسر أدوات نشر الوعي الشرير والقائمين عليه.

فالإنسان يتشكل وعيه باستمرار، ويتغير، ويتطور، فهو يعيش في حقل ثقافة متكونة وثقافة تتكون، يعيش في عالم يولد باستمرار وسائل تلقي المعلومات والأفكار. فصور العنف والقتل التي يتكرر ظهورها في وسائل التوصل المرئية قد تخلق تبلد الوعي بقيمة حياة الآخر، والوعي المتبلد الذي لا يكترث بالآخر هو وعي شرير.

والوعي بما هو في أحد تعريفاته ثقافة الفرد والثقافة هي التي تحدد علاقة الإنسان بالعالم، فإن كل ما يظهر من سلوك عملي هو مظهر من مظاهر الوعي.

وكما أشرنا سابقاً فإن الوعي حقل التفكير والتفكر، إنه عملياً هوية الإنسان الروحية التي تتشكل لديه كفرد يعيش في هذا العالم.

فأي خطر أكبر من خطر شخص يطل على الناس يومياً عبر شاشات التلفزيون أو عبر اليوتيوب والأشكال الأخرى من وسائل العرض، وهو يحقن الناس بالوعي الخرافي والوعي الثأري والوعي المخرب للعلاقات المعشرية؟ إن الأمر جدي جداً.

 

Email