«الواقعية المبدئية» والأزمة الكورية

ت + ت - الحجم الطبيعي

بينما اتفقت الكوريتان على خوض الألعاب الأولمبية تحت علم واحد، كانت الولايات المتحدة تجري لقواتها العسكرية تدريبات على تحريك قواتها ومعداتها تحت نيران المدفعية الحية، وقال وزير دفاعها في اجتماع لمسؤولي عشرين دولة، إن بلاده قد أعدت خطة لخوض الحرب ضد كوريا الشمالية، حال فشل الدبلوماسية.

وتباين المشهدين يشير للتناقض الصارخ بين سياسات إدارة ترامب الفعلية، وبين استراتيجية الأمن القومي التي نشرتها في ديسمبر. فمن الأزمة الكورية، لبناء الجدار العازل مع المكسيك، ووصولاً للعلاقة مع الصين، تشي سياسات الإدارة الأميركية بأنها بعيدة عن منهج الواقعية الذي وصفت به وثيقة الأمن القومى الاستراتيجية التي قدمتها.

ففي المقدمة، كانت الوثيقة قد وصفت استراتيجية الأمن القومي الواردة فيها، بأنها تقوم على «الواقعية المبدئية»، ثم شرحتها بأنها تلك «المبنية على النتائج لا الأيديولوجيا. وتعتبر أن تحقيق السلام والأمن والرفاهية، يعتمد على الدول القوية ذات السيادة التي تحترم مواطنيها في الداخل، وتتعاون من أجل السلام في الخارج.

وهي تؤمن بأن المبادئ الأميركية عنصر خير دائم للعالم». لكن سياسات الإدارة، من الناحية الفعلية، تختلف عن جوهر الواقعية كما نعرفها. فتيار الواقعية في العلاقات الدولية عموماً، ينظر للعالم فيرى الصراعات أكثر مما يرى فرص التعاون والاعتماد المتبادل. لذلك، فهو يعتبر القوة المفهوم الحاكم للعلاقة بين الدول.

وتيار الواقعية الأميركي تحديداً، يؤمن بأنه في عالم كهذا، مليء بالصراعات، فإن المصلحة الأميركية تتحقق عبر الزعامة الأميركية. ويرى أن النظام الدولي الذي أسهمت الولايات المتحدة في بنائه بعد الحرب العالمية الثانية، يخدم مصالحها، ومن ثم، فإن الحفاظ عليه يمثل مصلحة أميركية حيوية.

لكن أداء ترامب منذ اليوم الأول، مثّل تحدياً واضحاً لذلك النظام الدولي. وكان جوهر ذلك التحدي، هو إصرار الرئيس، بل ووثيقة الأمن القومي نفسها على مبدأ «أميركا أولاً». ومما لا شك فيه، أن الإدارات الأميركية المتعاقبة، مثلها مثل أي حكومة في العالم، تضع مصالح بلادها «أولاً».

إلا أن وضع مصلحة الدولة العليا في المقدمة، ليس هو نفسه المقصود بمفهوم «أميركا أولاً». فوفق هذا المفهوم، لا تقوم العلاقات مع دول العالم على أساس تبادل المنفعة، كما هو الحال عند تيار الواقعية، وإنما تقوم في جوهرها على المعادلات الصفرية.

فما يكون مكسباً لدولة ما، يخصم بالضرورة من مصلحة الولايات المتحدة. وترامب عبّر بنفسه عن ذلك المعنى مرات عدة، عبر تأكيده على أن «كل دول العالم تقريباً»، تستغل الولايات المتحدة بشكل أو بآخر، بمن في ذلك حلفاء أميركا التقليديون، من ألمانيا لليابان.

ومن هنا، فإن مفهوم «أميركا أولاً»، على عكس تيار الواقعية، يعني أنه لا يوجد حليف دائم للولايات المتحدة، وإنما يتغير الحال متى ارتأت إدارة ترامب أن مثل ذلك الحليف يخصم من مصالح الولايات المتحدة. ومفهوم «أميركا أولاً»، يعني في الوقت ذاته، أن لا غضاضة في تجاهل مصالح الحلفاء، إذا لزم الأمر، طالما هي تتناقض مع ما يراه ترامب وإدارته خَصماً من مصالح الولايات المتحدة الأميركية.

وقد أدركت الكثير من الدول الحليفة، أنه لم يعد بإمكانها الاعتماد على الولايات المتحدة لحمايتها. وهو ما قالته صراحة أنغيلا ميركيل، عشية زيارة ترامب الأولى لأوروبا. لكن يظل الأخطر من الموقف الأوروبي، هو الموقف في شرق آسيا. فالواضح أن كوريا الجنوبية قد أدركت هي الأخرى ذلك المعنى، فراحت تفتح أبواب المحادثات الثنائية مع جارتها الشمالية، دون انتظار لدور أميركي.

وقد بدا ذلك التوجه من جانب كوريا الجنوبية، أكثر وضوحاً بعد انتخاباتها الأخيرة من ناحية، وبعد تصريح ترامب، من ناحية أخرى، الذي اعتبر أن وزير خارجيته ريكس تيلرسون «يضيع وقته»، بمحاولة التفاوض مع كوريا الشمالية.

غير أن الأخطر على الإطلاق في كل التطورات المتلاحقة في الملف الكوري، هو التصريحات الأخيرة لوزير الخارجية الأميركي، الذي كان هو نفسه يفضل الحل الدبلوماسي للأزمة.

ففي المؤتمر الذي عقد الأسبوع الماضي في كندا، بخصوص تلك الأزمة الكورية، رفض ريك تيلرسون الإجابة عن سؤال يتعلق بإمكانية توجيه ضربة عسكرية محدودة لكوريا الشمالية، وإن أكد أنها أحد الخيارات التي يناقشها البيت الأبيض، بقوله إنه يرفض الحديث عن «مسائل لم يتم بعد اتخاذ القرار بشأنها من جانب مجلس الأمن القومي، أو الرئيس».

ولم يكن أقل خطورة من ذلك، أن تيلرسون حذر كوريا الشمالية، من أنها إذا لم تختر طريق التفاوض، فإنها بذلك تكون «هي التي أطلقت خياراً آخر»، والذي هو بالضرورة خيار الحرب.

باختصار، فإن مفهوم «أميركا أولاً»، بما يعنيه من تجاهل لمصالح الحلفاء، هو المؤثر في الأزمة الكورية، لا «الواقعية» التي تحدثت عنها استراتيجية الأمن القومي.

 

 

Email