سيّدة الشتاء

ت + ت - الحجم الطبيعي

عصراً تبدأ طقوس الشتاء. الشتاء مطر وبرد وحطب ونار وكستناء. الشوارع تخلو من المارة، الناس يسرعون إلى بيوتهم، البيوت تدفئها أحاديث الجدات. الجدة سيدة الشتاء.

تروي للأبناء و الأحفاد حكايات زمان. الأطفال يجمعون الحطب والآباء يشعلونه في «الكانون» الحديدي في حوش الدار. وحين يصبح جمراً يُنقل إلى الغرفة الشتوية التي تتسع للكل.

عادة تكون في زاوية الدار بباب واحد وشباك. في جانب من «الكانون» يوضع إبريق الشاي وفي الوسط الكستناء «فاكهة الشتاء»، إن توفرت، وإلا حبات بطاطاً صغيرة. وأحياناً بطاطا حلوة، تلك التي تحوي مادة غذائية تبعث الدفء في الجسم ويسمونها حلوى الفقراء.

ما إن تنتهي الحكايات حتى تبرد النار. فيتسلل كل إلى فراشه ليدفئه، أعني هو يدفئ الفراش. هكذا هم الفقراء يدفئون الفراش فيما الأثرياء يدفئهم الفراش.

وكما للشتاء ملابسه، فإن له أيضاً أكلاته التي تزود الأجسام بالطاقة وتسهم في تخزين الحرارة. بعض الأكلات الشعبية الشتوية مازالت تحافظ على مكانتها، لا بل أصبحت تواكب روح العصر وتنافس صيحات الأطباق العالمية، وبعضها الآخر اندثر ذكره ومذاقه على مر السنوات، حتى أصبحت من التراث. ولكن ليس بينها العدس الذي حافظ على مكانه ومذاقه ودفئه.

من تلك الأكلات المفتول الذي يحضر عن طريق «فتل» حبات البرغل الناعم مع القليل من طحين القمح والماء، ومن ثم طبخه على بخار الماء، وبعد نضجه يضاف إليه «اليخني» وهو مزيج من الخضراوات مع صلصة البندورة والماء، والمقلوبة وورق العنب والخبيزة والمعجنات.

الشتاء حياة. موسم الارتواء. مطر من السماء يحيي الأرض وما عليها. المبشر بالربيع، على اليمين زهر أصفر، وعلى اليسار سهل أخضر إن كان على عينيك غشاوة أزلها وتمتع بما أُعطيت من جمال لم تمسسه يد بشر. انظر قليلاً إلى أسفل، لا بل كثيراً إلى أسفل، من حيث جئت وإلى حيث تعود، إلى أمك الأرض، أيها الإنسان الأعمى الذي ترى، وما ترى الذي يجب أن ترى..

أن تحيا الربيع يعني أن تخرج من إسفلت الشارع الأسود إلى فضاء الأخضر، أن تقوم عن الكرسي الخشبي الذي يقيدك وتعود معه إلى أمه الشجرة، أن تغسل عينيك بالضوء الرباني، وأن تمشي على مهل، على مهل حين تمر بزهرة شقت الصخر وشهقت، ببساط أخضر لكأنه جناح غيمة سقطت على الأرض ليسقيك ويطعمك ويظللك ويفرحك.

أن تحيا يعني أن تنهض من عتمة النوم إلى نوم العتمة، أن تكون تبينت الخيط الأبيض من الخيط الأسود. بالأبيض اصنع ثوباً يليق بإنسانيتك ودع الأسْود للوحوش، فكم من البشر صارت ضباعاً، «وفي السماء رزقكم وما توعدون»، لن يأخذ رزقك غيرك، وإن تأخر اصبر وإن كان قليلاً فهذا نصيبك من الدنيا.

لا يغرنك الذين يكنزون الذهب والفضة ويسرقون مال اليتيم ويقتلعون جيب الفقير، أولئك الذين تراهم غيارى على الناس وما هم بغيارى.

لا أحد يعود إلى هناك بثوب ذي جيوب ولا بدفتر شيكات أو بهرجة الشكليات، هي قطعة قماش أبيض وتراب الأرض التي أنجبت بني آدم كلهم.

إذا كانت الحياة فن البقاء فإن البقاء لا يعني أن تعيش كما يراد لك بل كما تريد، إن كنت ذا عقل تسكن الجانب المضيء بالخير من الحياة.

لكن ثمة من تختلط عليهم الألوان فينتظر ليرى قوس قزح في الليل، والعتمة في النهار. هؤلاء لا يدركون أن الوصول لا يكون عبر الممرات الخلفية ولا الطريق المكيافيلية فالغاية أبداً لا تبرر الوسيلة الشيطانية. إنهم من يكذب ومن ينافق ومن يصفق. هؤلاء لا موسم مطر لهم ولا حصاد سوى الخيبة والقش الذي تذروه الرياح.

 

Email