مستقبل القاهرة التراثية

ت + ت - الحجم الطبيعي

لم يكن أحد يعرف أن إنشاء "العاصمة الإدارية" ربما يكون هو مصدر الإحياء للقاهرة عاصمة مصر، وحاملة اسمها أحياناً لمن يراها مركز السلطة، ومخزن الحضارة، أو الحضارات، عبر عصور ممتدة حتى بداية التاريخ.

أو التاريخ الذي نعرفه على الأقل قبل خمسة آلاف عام عندما وجد المصريون القدامى أنه عند تقابل النيل مع فرعيه دمياط ورشيد، فإن ذلك استراتيجياً واتصالياً هو المكان الذي يكون فيه مركز البلاد؛ فكانت "منف" أو في العرف الأجنبي "ممفيس" التي تقف على هضبتها ما بات معروفاً بأهرامات الجيزة. ما تلا ذلك يمكن رصده عند التجول في أنحاء العاصمة الكبرى حيث تركت "العمارة" في كل مكان بصمة لمصريين كان امتيازهم البناء سواء كان للسكن أو للعبادة، أو للحياة، أو الموت.

الحقائق الكبرى في الدنيا كلها تتجسد في المأوى، وظل شمس، وواقي مطر، والحامي من افتراس البشر أو الوحوش. هنا في العاصمة جلس الفراعنة، ومن بعدهم ملوك وسلاطين وأمراء وولاة وسلطات حملت أسماء شتى، ولكنها في الأول والآخر كان لديها قصة الصعود والأفول للبشر، ولكن الخلود ظل دائماً متجسداً في أشكال عمارة كثيرة حملت الحياة من ناحية، والفنون من ناحية أخرى.

إنشاء العاصمة الإدارية خلق للمرة الأولى فرصة لكي تبتعد "السلطة" إلى أحياء حديثة وملائمة لإدارة دولة في القرن الواحد والعشرين، ويبقى من بعدها "العزة" المتمثلة في تراث تراكم حضاري لا يوجد مثيل له في مكان آخر في العالم.

الأرجح دائما أن عاصمة الدولة تعبر عن حضارة واحدة كانت في يوم ما هي التي جمعت بشرا لكي يكون لهم وطن مشترك، وأحيانا قليلة حدث فيها تراكم حضارتين. القاهرة وحدها مجمع حضاري ليس له مثيل، ومن ثم كان المشروع القومي للقاهرة "التراثية" منطقياً وعملياً.

الفكرة ببساطة قامت على مجموعة من الأمور: أولها أن المباني الحكومية سوف تقدم للعاصمة فراغات لم تكن تحلم بها، وهذه بطبيعتها مساحات للخضرة ورئات للتنفس، ومجالات للاستثمار التراثي. وثانيها أن تاريخ القاهرة المترجم إلى عمارة كله تقريبا هو رأس مال لا يقدر بثمن، ومهما كان ما جرى له عبر الزمن فإن العلم والتكنولوجيا الحديثة يمكنها أن تستعيد ما كان، تجديدا وإحياء وبعثا.

وثالثها أن الأمر كله يحتاج إلى إرادة ومنظومة، الإرادة لاتخاذ القرار والفعل، والمنظومة هي التي تنقل العاصمة من الفوضى إلى النظام، ومن العشوائيات إلى الحضارة. كل عواصم وحواضر الدنيا لها دوائر زمنية ارتفعت فيها إلى السماء، وهبطت بها إلى الحضيض، وآن الأوان أن تبدأ القاهرة دورتها الصاعدة.

الإرادة تجسدت في القرار الجمهوري الذي شكّل اللجنة القومية لإحياء العاصمة التراثية والتي بدأت عملها منذ عام تقريبا، وقاد البناء المهندس إبراهيم محلب ـ مساعد رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء الأسبق ـ خطواتها مع نخبة متميزة من المصريين الحالمين والفنانين والتنفيذيين.

وخلال هذه الفترة القصيرة كان لابد من بداية توضح وتشرح، وكانت مناسبة مرور 150 عاماً على إنشاء القاهرة الخديوية فرصة ملائمة يمكن للقاهريين مشاهدتها، والتلامس معها، وللخبراء أن يكونوا منها نموذجاً قابلاً للتكرار في مناطق كثيرة في العاصمة، وربما خارجها أيضا.

وبعد عام من بدء المشروع، فإن ملامحه لم تتجسد فقط وسط العاصمة، وإنما تجد بصماته في الفسطاط والقاهرة الفاطمية والقاهرة الأيوبية، أما في القاهرة الفرعونية فإن المتحف المصري الكبير يعيد الحياة إلى ما كان مقصداً جنائزياً عند الأهرامات. وبالمناسبة فإن عدوى الأفكار تنتقل بسرعة، وحديث الإحياء الآن وصل إلى الإسكندرية، ورشيد، ومناطق أخرى من البلاد.

لكن موضوعنا هو القاهرة المزدحمة الآن بالمشروعات الكثيرة حول اتصالها بالعاصمة الإدارية من ناحية، وبقية القطر من ناحية ثانية، والأهم من ناحية ثالثة أن يجري الربط بين شرقها وغربها حول النيل في وحدة عضوية واحدة.

مثل ذلك يتطلب إنشاء "مجلس أعلى للقاهرة" يفكر في جناحيها تفكيراً متكاملاً خاصة أن خطط الدولة كلها تجعل القاهرة ذات جناحين يرتكزان على عمود فقري هو النيل. ويتطلب أيضاً "قانوناً للعاصمة" كما هو الحال في كثير من عواصم الدنيا الأخرى والتي تعبر عما فيها من تفرد وخصوصية.

قانون القاهرة يكون بالضرورة لإصلاح ما جرى لها من تدهور وتراجع وعشوائية وفوضى في أمور كثيرة؛ وما لا يقل أهمية هي أنه يحافظ على ما يتحقق فيها من تقدم وإصلاح.

آفة القاهرة كانت أن ما يجري فيها من تقدم سرعان ما يجري تراجعه حتى قال لي صديق أميركي ذات مرة بناء على تجربته في القاهرة وبعد أن زار عدداً من المباني التي ساهمت فيها وكالة المعونة الأميركية، إن مصر لا تعرف مفهوم المبنى الجديد أو الحديث، هي دوما تجعله قديماً في أقصر مدة زمنية!.

وفي الصين فإن منطقة الجنوب الشرقي حيث توجد شانغهاي ومدن الصين الحديثة والعظيمة، اكتشفت أنه حفاظا على ما جرى فيها من تقدم فإنه لا يمكن لصيني مقيم في المناطق الأقل تقدما أن يأتي إليها من دون تصريح رسمي بأن له إقامة وعملاً أو مصدر دخل.

بالطبع فإن لا أحد يطالب بعزل القاهرة عن بقية البلاد، ولا منع المصريين من القدوم إليها، فذلك ليس من شيم أهل مصر؛ وإنما المطلوب هو تنظيم العلاقات المختلفة المترتبة على إحياء العاصمة التراثية بما يحفظ ثرواتها، ويحافظ على أهلها، والسائحين فيها.

ولعل جزءا هاما من هذا التنظيم أن يكون هناك عملية متكاملة للتعليم الخاص بالقاهرة تفرض على مراحل الدراسة المختلفة، كما تبثها أجهزة إعلام محترفة، فالمعرفة ربما كانت أهم ما يلهم الحفاظ على التراث.

بقي أمر هام هو كيف نجعل من كل ذلك حالة اقتصادية فوارة بالنمو والتقدم، يجد فيها المصريون ليس فقط العمارة والأثر وقبلة للسائحين من بلاد أخرى، وللقاهريين مكاناً للحياة، والاقتصاد المزدهر، وبناء المستقبل؟

 

 

Email