نحو تسوية «غير أممية» في سوريا

ت + ت - الحجم الطبيعي

عجزت الأمم المتحدة في الغالب، عن صياغة تسويات نهائية لكل الصراعات والحروب التي تفجرت عقب ظهورها على الساحة العالمية، بعد نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945، بداية من حربي كوريا وفيتنام، وحتى إنهاء النظام العنصري في جنوب أفريقيا، بعد سنوات من الدمار والخراب والخسائر البشرية الجسيمة، وخلال سنوات عمرها التي تجاوزت السبعين، كانت المنظمة الدولية بالفعل، طرفاً أساسياً وشريكاً جوهرياً في محاولات تسوية المنازعات بالطرق السلمية، من خلال عشرات المبعوثين والمفوضين لقضايا بعينها، إلا أن جهودها تلك، كثيراً ما اصطدمت بمواقف صلبة وحوائط سد عجزت عن تجاوزها أو إيجاد الحلول الخلاقة للتغلب عليها.

وتبقى أزمات الشرق الوسط الراهنة في سوريا والعراق واليمن وليبيا وقضية فلسطين المزمنة، خير دليل على ذلك، حيث عجزت الأمم المتحدة عن تقديم تسويات سياسية متكاملة الأركان، من شأنها أن تطوي صفحات مريرة وطويلة من الاقتتال، وتضع أطراف الصراع على الطريق الصحيح لتحقيق السلم والأمن المنشودين، والحقيقة أن الهدف من كتابة تلك السطور، ليس الخوض في بحث أو تحليل ظاهرة فشل الأمم المتحدة في التعامل مع قضايا العالم الملتهبة، فقد سبق تناوله في مناسبات عديدة، وعلى مستويات متنوعة، ولكن ربما المهم في هذا المقام، الإشارة إلى أن معظم التسويات للأزمات الكبرى كانت عبارة عن تسويات «غير أممية»، بعيداً عن دهاليز وردهات المنظمة الدولية، برغم جهودها المبكرة..

وليس أدل على ذلك، من أنه برغم عشرات، وربما مئات القرارات الصادرة عن المنظمة ذاتها بشأن تسوية الصراع العربي –الإسرائيلي، ومنح الفلسطينيين حقوقهم المشروعة غير القابلة للتصرف، وحمل الكيان الصهيوني على الانسحاب من الأراضي العربية المحتلة، إلا أن جميع تلك القرارات، كانت مجرد «حبر على ورق»، ولم تجد طريقها إلى التطبيق العملي والتنفيذ الميداني، ومن هنا، ولدت الحلول «غير الأممية»..

ففي منتجع كامب دايفيد بواشنطن، ولدت اتفاقات عام 1977 بين مصر وإسرائيل، التي أنتجت معاهدة السلام بين البلدين عام 1979، وأصبحت مرجعية حاكمة لعلاقاتهما حتى اليوم، ومن الضروري الإشارة هنا، إلى أنها أنهت بالفعل حالة الحرب بين الدولتين، واستردت مصر أرضها المحتلة، وفقاً لها، بغض النظر عن حديث السلام البارد بين البلدين.

وعلى النهج ذاته، وبعد سنوات قليلة من هذا التاريخ، ولدت اتفاقية «وادي عربة»، التي أوجدت حالة من السلام بين المملكة الأردنية وإسرائيل، لا تزال أيضاً المرجع الأساسي لعلاقات البلدين، والمثير في هذه التطورات، أنه برغم الحشد الدولي الضخم تحت مظلة الأمم المتحدة لعقد مؤتمر مدريد الدولي في العاصمة الإسبانية مطلع تسعينيات القرن الماضي، بهدف التوصل إلى سلام شامل ودائم في الشرق الوسط، إلا أنه انتهى إلى فشل ذريع، ليستيقظ العالم بعدها بأشهر على «اتفاقات أوسلو»، التي توصلت إليها إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية، بعد مباحثات سرية طويلة في العاصمة النرويجية، لتضع أساساً لحالة سلام واتصالات بين الجانبين، أيضاً بعيداً عن الأمم المتحدة.

ولعل من أهم الاتفاقات في هذا المجال، اتفاقية الإطار العام للسلام في البوسنة والهرسك والمعروفة باسم اتفاقية دايتون للسلام، والتي انتهى بموجبها الصراع المسلّح الذي دار في البوسنة والهرسك بين 1992 و1995، وأدت هذه الاتفاقية إلى تقسيم البوسنة والهرسك إلى جزأين، وبرغم أن التوقيع الرسمي للاتفاقية تم في باريس ديسمبر 1995، فإن الاتفاقية تعرف باسم مدينة دايتون، ونصت على خمسة عناصر رئيسة للتسوية، وجاءت اتفاقية دايتون بنصوص غير مرضية للمسلمين، وقال الرئيس البوسني علي عزت بيجوفيتش: إن اتفاقاً غير منصف خير من استمرار الحرب!

هذه الحقائق التاريخية، تؤكد أن أزمات المنطقة العربية الراهنة، وخاصة المشكلة السورية، ستجد حلولها في أماكن أخرى بعيداً عن الأمم المتحدة، وأغلب الظن أن الأساليب الميكيافيللية لبعض القوى العظمى ستفرض كلمتها، بالوقوف وراء افتعال أو اختلاق الأزمات والحروب وتعقيدها، والوصول بها إلى ذروة المأساة، ثم التدخل بفرض حلول وتصورات للتسوية، يقبل بها الجميع، حتى ولو كانت غير مرضية تماماً، مثلما قال «بيجوفيتش»، فأحياناً يكون القبول بالحلول كتجرع السم.

ومن ثم، لن يكون من الصعب في ضوء ذلك، ومع تعدد المنصات وتشرذمها بين عواصم ومدن عديدة، التأكيد على أن «منصة جنيف» مع تعدد جولاتها، قد فقدت زخمها، وليس شرعيتها، ولن يكون في مقدورها صياغة الحل السياسي النهائي المقبول من الجميع، في ظل الظروف والمواقف الراهنة، ويبدو أنه على العالم أن يترقب وينتظر مرة أخرى تسوية «غير أممية» للأزمة السورية، ولكنها في الغالب ستكون هذه المرة بتوافق روسي - أميركي، سيكشف عن تفاصيله في مرحلة تبدو قريبة.

*كاتب ومحلل سياسي

Email