فتنة ترامب

ت + ت - الحجم الطبيعي

يبدو أنه كتب على الفلسطينيين دفع أثمان باهظة من حقوقهم المشروعة وطموحاتهم الوطنية العادلة، لقاء تفاعلات وإشكاليات، فكرية نظرية أو حركية عملية، لا صلة لهم بها تدور في الأروقة السياسية والحقوقية الداخلية الأميركية، هناك خلف أعالي البحار والمحيطات على مسافة آلاف الكيلومترات من فلسطين ومحيطها الإقليمي.

يقال إن أحد أهم حوافز الرئيس ترامب لاتخاذ قرار الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، والتوجيه بنقل سفارة بلاده إليها، وقوعه تحت ضغوط واستحقاقات قضائية وسياسية، تكفي كل واحدة منها لقصم ظهر أي سيد آخر في البيت الأبيض.

ومنها إقرار مستشاره السابق للأمن القومي مايكل فلين بأنه كان على علاقة مع موسكو أثناء حملة الانتخابات الرئاسية، الأمر الذي سبق لترامب أن نفاه بما يضعه تحت طائلة الاتهام بتضليل العدالة. والعبرة هنا أن ترامب مقتنع بقدرة اللوبي اليهودي الصهيوني السحرية على إسناده وتعزيز موقفه، نظير إلقاء القدس في حجر إسرائيل.

شيء مشابه لذلك حدث قبل سبعين عاماً حين رأى الرئيس الأميركي هاري ترومان أن إظهار عطفه على مشروع الوطن القومي لليهود، الذي تصور أنه يحظى بشعبية واسعة بين الأميركيين، سوف يمكنه من الفوز في الانتخابات.

لقد كان دعمه لصدور قرار تقسيم فلسطين عن الأمم المتحدة عام 1947، ثم التعجيل بالاعتراف بإسرائيل بعد عشر دقائق من إعلان قيامها في العام التالي، سلوكاً انتخابياً إلى أبعد الحدود.

مهم جداً في هذا السياق ملاحظة كيف أدى انحياز ترومان وخضوعه للتقديرات الانتخابية والأشواق الرئاسية، إلى إغلاق سمعه وبصره عن نصائح أقرب مساعديه وطاقمه الحكومي من معارضي الهرولة وراء المشروع الصهيوني. وكان على رأس هؤلاء كل من جيمس فورستال وزير الدفاع، وجورج مارشال وزير الخارجية، وجورج كينان مهندس نظرية الاحتواء في الاستراتيجية الدولية.

وفي المقابل كان ترومان مأخوذاً بأفكار آدي جاكوبسون رجل المال والأعمال اليهودي الصهيوني. ومن المفارقات، أن هذا الأخير كان شريكاً لترومان في بعض الأعمال التجارية، ومن المسموحين لهم بدخول البيت الأبيض في أي وقت. هذا يذكرنا بعقلية ترامب على طول الخط.

في زمنه، وصف ترومان بأنه من أكثر الناس جهلاً بالسياسة الخارجية. تماماً كما هو شأن وريثه الحالي. وإذا كان ترومان قد أخذته العزة بالإثم، فلم يلب نداء المحيطين به بالتريث قبل الانغماس بالدولة الأميركية العظمى في الخطيئة الصهيونية، فإن الوريث ترامب أعطى ظهره لمواقف الخلق أجمعين.

فهو لم يعر اهتماماً لكل الرافضين لخطوته، المستنكرين لها، على امتداد خريطة القوى والكتل والتنظيمات الإقليمية والدولية، في مشارق الأرض ومغاربها دون استثناء بعض أقرب الحلفاء والشركاء في عالم الغرب، لقد أغلق قلبه وعقله حتى الرؤى السلبية الواردة من إسرائيل ذاتها.

ومن ذلك الرسالة التي رفعها إليه 25 سفيراً إسرائيلياً سابقاً وشخصيات أكاديمية ورموز سياسية مرموقة، وأعربوا فيها عن معارضتهم لاعتراف أميركي مفاجئ بالقدس عاصمة لإسرائيل «لأن وضع المدينة للديانات التوحيدية الثلاث، يجب حله في إطار شامل. والاعتراف الأميركي سيعمق الصراع الإسرائيلي الفلسطيني ويضر باحتمالات السلام، وقد يشعل المنطقة لأجيال».

لم يتأت الرفض الداخلي الذي واجهته سياسة ترومان سابقاً عن القناعة بحقوق الفلسطينيين وعدالة قضيتهم فقط، وإنما جاء أيضاً انصياعاً لمقتضيات إنفاذ القانون وإقرار السلم والأمن الدوليين، في منطقة تتقاطع عندها مصالح أميركية وغير أميركية لا حصر لها. توقع الرافضون وقتذاك أن يؤسس تقسيم فلسطين لصراع ضروس وفتن يصعب وأدها.

وقد تحققت هذه التوقعات المتشائمة بحذافيرها. حدث ذلك رغم استبعاد القدس من خريطة الدولتين اللتين أقرهما التقسيم، فكيف الحال بالسلم والأمن في فلسطين التاريخية وجواريها القريب والبعيد، اليوم وغداً وبعد الغد، بعد أن أقر ترامب بأن القدس، قلب فلسطين وعاصمتها وقبلة المسلمين الأولى ومهوى أفئدة مسيحية كثيرة، تخص الصهيونية وكيانها السياسي وحدهما؟!..

جاء في الأثر أن مجنوناً قد يرمي حجراً في بئر، لا يستطيع كل عقلاء الدنيا إخراجه. وها هو ترامب يفعلها مع القدس مثلما فعلها ترومان مع فلسطين من قبل.

 

Email