ذرائع لا تنتهي للإرهاب الأسود

ت + ت - الحجم الطبيعي

من حيث المبدأ، قد لا يكون هناك مبرر أو محل لكلمة «الأسود» في توصيف الإرهاب، وكذلك كلمات أخرى عامرة بها لغتنا العربية، على غرار الإرهاب الجبان والخسيس، فليس هناك إرهاب «أبيض أو شجاع أو نبيل»، وإنما هو في حد ذاته عمل يحمل كل الصفات القميئة واللا إنسانية، التي تختزلها جميعاً كلمة واحدة، هي «إرهاب» يروع الآمنين والأبرياء المسالمين.

قد تكون البلاغة التي تتسم بها اللغة العربية، هي المبرر الدائم لاستخدام الكلمات السلبية في وصف التجاوزات المرفوضة من الأساس، لإظهار حجم الرفض والشعور بالاشمئزاز تجاه تلك الممارسات الملفوظة، إلا أن البلاغة ذاتها، كثيراً ما ينجم عنها ما يشبه «الأسطوانات المشروخة» في التناول الإعلامي والتحليلي لكثير من التطورات المرتبطة بالظاهرة الإرهابية ذاتها..

ومن ذلك مثلاً، أن «الإرهاب لا دين ولا وطن له»، «الإرهاب يرقص رقصته الأخيرة»، «محاربة الإرهاب بالفكر وليس بالسلاح»، «التكفيريون لا يمتون للإسلام من قريب أو بعيد»، «الإسلام برئ من الجماعات الإرهابية».... إلخ، وغير ذلك من التعبيرات المتكررة، التي باتت تضعف من التناول الفكري والإعلامي لهذه القضية الخطيرة، وربما تجوفها من عناصرها الرئيسة.

فهذه البلاغة التي تعد بالتأكيد دعماً معنوياً، له أهميته رغم أي شيء، تكمن خطورتها في إبعاد المشاهد أو القارئ والمستمع عن استيعاب المعنى الحقيقي للتطورات الجديدة، وتبقينا على حالة القفز في الهواء، أو السير في المحل، نتيجة تكرار«الأسطوانات المشروخة» المكررة للكلمات ذاتها، والتي يفترض أنها باتت بديهيات لا داعي لذكرها مجدداً مع كل حادث مشابه، فقد استقر في وجداننا جميعاً، أن الإرهاب بالفعل لا وطن ولا دين له، وأن التكفيريين لا يمتون للإسلام، وأعمالهم يلفظها الدين جملة وتفصيلاً، وأنهم مفسدون في الأرض، وتجب مواجهتهم بمنتهى القوة، جنباً إلى جنب مع محاربة التطرف والتشدد بالفكر المستنير.

المقصود هنا، أن نبني على ما استقر بالفعل من حقائق فكرية ووجدانية وأمنية، للتعامل مع مستجدات القضية، حرصاً على الثقة والمصداقية، وتجنباً لانصراف الناس من حول المؤسسات الرسمية، لاستشعارهم أن المسألة باتت محصورة في ترديد شعارات أو جمل «جاهزة التعليب»، في تناقض واضح مع الواقع الميداني، الذي يعكس في كثير من الأحيان، جهوداً ضخمة تبذل على أرض الواقع، وتحديات جسيمة وخطيرة يعجز التناول الإعلامي عن إبرازها بغرقه في بحر من الأوصاف البلاغية والإنشائية.

وقد تكون هذه الظاهرة بعيداً عن التعميم، سبباً في إطلاق تحليلات تجافي الواقع، أو تضفي مزيداً من التوتر على واقع الأزمات، بدلاً من الذهاب إلى المضامين الحقيقية لما تتعرض له المجتمعات، فتخدم الإرهابيين عن دون قصد، بتبني ذرائعهم الواهية، والتي لا تنتهي في تبريرهم لاعتداءاتهم، ومن ذلك مثلاً، اعتبار الهجوم الإرهابي على مسجد الروضة بشمال سيناء الجمعة الماضية «قتلاً على الهوية»، لمجرد أن التكفيريين يرفضون الصوفية التي ينتمي إليها ضحايا الحادث، الذين يحرصون على إقامة «حلقات ذكر» داخل المسجد المستهدف!!

إن الاعتداء الذي يحمل بصمات إرهابية "قاعدية /‏ داعشية" لا تخطئها عين، وهو الأبشع من نوعه في تاريخ مصر على الإطلاق، يصعب اختزاله في هذا التحليل. إن ما تشهده مصر حرب شرسة مع جماعات إرهابية وتكفيرية ظلامية، يجب مواجهتها بكل أشكال السلاح والعتاد، وبلا هوادة، وأغلب الظن أن الدولة المصرية بذلت وتبذل بكل مؤسساتها وهيئاتها، جهوداً مضنية في مواجهة هذا الإعصار المخيف، ولولا تلك الجهود، لكانت النتائج أسوأ بكثير، أما لماذا هذه الخسائر البشرية الكبيرة، فربما مرد ذلك إلى مجموعة عوامل:

أولها: أن التنظيمات الإرهابية لا تعطي قراءة واحدة، ولا تتصرف بشكل ممنهج، ولكن تتنوع أساليبها وخططها باستمرار، من مهاجمة أبراج ومحولات الكهرباء، إلى ضرب الوحدات العسكرية، إلى مهاجمة التمركزات والأكمنة والمنشآت الشرطية والأمنية، إلى استهداف رجال القضاء والجيش وأمن الدولة في عمليات اغتيال منفردة، ثم تفجير الكنائس وقتل الأقباط، ومهاجمة حافلاتهم السياحية في عمق الصحراء، وأخيراً، ولأول مرة، ضرب المسلمين وهم يصلون داخل مساجدهم، ويعني ذلك أن الإرهابيين يبدلون من عملياتهم النوعية بشكل دائم، ما يجعل الوسائل التقليدية غير مجدية في مواجهتهم.

ثانيها: باستثناء الوادي والدلتا ومجرى نهر النيل، فإن الجغرافيا المصرية شديدة التعقيد، بصحراواتها الشرقية والغربية، وبحور رمالها التي تجعل من إحكام الرقابة عليها، وكذلك الحدود الممتدة، عملية في منتهى الصعوبة، وتحتاج إلى إمكانات لوجستية وتكنولوجية عالية المستوى، لإنجاز المهمة بنجاح، والانتقال إلى المبادأة والفعل، من خلال التدخلات الاستباقية والضربات الإجهاضية، وعدم الاكتفاء بالقيام برد الفعل.

المهم في الأمر، أن الشعب المصري بالفعل، يضع ثقته الكبرى في قيادته وقواته المسلحة وأجهزته الأمنية، رغم كل الصعاب، ويبقى الآن على المؤسسة الإعلامية، أن تطور من خطابها، وترفع من أدائها في معركة لا تحتمل سوء الأداء، فلم يعد من المقبول الاستمرار على نهج «الأسطوانات المشروخة»، والإسهاب في استخدام العبارات والجمل الإنشائية، بدلاً من الخوض في عناصر موضوعية، تقدم دعماً حقيقياً للدولة في هذه المعركة الشرسة.

Email