هل رأيتم لوغن بول؟

ت + ت - الحجم الطبيعي

كان يوم الحادي عشر من نوفمبر، يوماً تاريخياً في دولة الإمارات العربية المتحدة، ففي هذا اليوم، تم فتح أبواب متحف «اللوفر أبوظبي» أمام الجمهور للمرة الأولى، وقد توافد الآلاف منذ الصباح لزيارة المعرض، وفق ما جاء في التقارير الإخبارية التي تابعت الحدث، وكان لافتاً للنظر أن كثيراً من أولياء الأمور اصطحبوا أبناءهم معهم في زيارتهم للمتحف، وهذه ظاهرة تبعث على التفاؤل والأمل، لأنها تؤسس لجيل من الأبناء يقدّر الفن والثقافة، ويعرف للمتاحف قيمتها التاريخية والعلمية والثقافية والفنية، وهو ما نحتاج إليه في زمن العلوم والتكنولوجيا المتقدمة، التي تلاحقنا باختراعاتها وأدواتها التي نصبح أسرى لها يوماً بعد يوم، ما قد يشغلنا عن زيارة المتاحف ورؤية ما فيها من كنوز لا تقدر بثمن.

ليس هذا هو الحدث المهم، فهناك حدث يعتقد البعض أنه أهم، وهذا البعض ليس قليلاً على كل حال، لأنه يتكون من جمهور عريض، غالبيته من الشباب الذين هم في سن المراهقة، كانوا على موعد في مكان آخر مع واحد من نجوم الإعلام الجديد المؤثرين، الذين لهم سطوة على عقول شريحة كبيرة، لم تعد تتعامل إلا مع هذا النوع من الإعلام، الذي أصبح نجومه هم قدوات الشباب والمؤثرين فيهم إيجاباً وسلباً.

ففي هذا اليوم، احتشد الآلاف من الشباب في أحد المجمعات التجارية الكبرى، لرؤية نجم الإعلام الجديد الأميركي «لوغن بول»، الذي يحظى بمتابعة ما يقرب من 14 مليون مشترك على قناة اليوتيوب الخاصة به.

ورغم أن الموعد المحدد للقاء كان الساعة الخامسة مساء، إلا أن غالبية المعجبين بالنجم الأميركي، حرصوا على الحضور إلى مكان التجمع منذ الساعة العاشرة صباحاً، كي يحجزوا لأنفسهم أماكن قريبة من المنصة التي سيقف عليها لتحية معجبيه.

وبينما كانت الأمور في متحف «اللوفر أبوظبي» تتم بسلاسة، وكان الزائرون يتنقلون بين اللوحات والتحف والمنحوتات المعروضة فيه بهدوء وهم يتأملون هذه الكنوز، كان المشهد في المركز التجاري، حيث سيخرج «لوغن بول» إلى معجبيه صاخباً ومختلفاً تماماً، فقد تدافع المحتشدون محاولين الاقتراب من المنصة التي سيقف عليها نجمهم المفضل، كي يحظوا بنظرة قريبة منه، أو يظهروا في خلفية صورة تلتقط له، الأمر الذي اضطر رجال أمن المركز التجاري إلى استخدام الحزم مع بعضهم، ومنع بعضهم الآخر من تخطى الحواجز المقامة في الموقع المخصص للقاء بالقوة.

في متحف «اللوفر أبوظبي» كان الهدوء هو سيد المكان، وكان التاريخ والفن بقديمه وحديثه حاضراً، وكان التنقل بصمت وهدوء هو سمة الحاضرين، رغم وجود الصغار الذين جاء بهم ذووهم معهم في مبادرة جميلة منهم.

أما في المجمع التجاري، فكان الصخب هو سيد المكان، وكان صراخ «لوغن بول» ينطلق من فوق المنصة، فيجيبه المحتشدون أمامها بصراخ أعلى، ويتفاعلون معه بحماس يفقدهم السيطرة على أنفسهم أحياناً، لأن نشوة رؤية نجمهم المفضل تحول دون التفكير في ما يبدر منهم من تصرفات، ربما نراها نحن غير طبيعية، لكنهم يرونها طبيعية ومنسجمة مع الحالة التي يعيشونها، والنشوة التي يشعرون بها وهم يرون نجمهم المحبوب.

قد تبدو الصورتان متناقضتين، وقد يبدو ظاهر الحديث أنه تفضيل لإحداهما على الأخرى، لكن هذا غير مقصود إطلاقاً، وإنما هي محاولة لرسم صورة لحالتين تبدوان متناقضتين في ظاهرهما، لكنهما في حقيقة الأمر، تعبران عن طبيعة عصرنا الحاضر أولاً، وعن طبيعة الحياة في دولة الإمارات العربية المتحدة ثانياً، حيث تلتقي كل الثقافات وأنماط الحياة، مشكّلة هذه الفسيفساء التي تظهر لمن ينظر إليها منسجمة، رغم هذا التنافر الذي يبدو بين الصورتين، والذي يوحي بأن هناك تناقضاً ينبغي العمل على إزالته، أو أن هناك خيوطاً متشابكة ينبغي فرزها، كي يأخذ كل خيط منها مساره، ولا يتطلب الأمر قطعه.

«هل رأيتم تلك اللوحة الشهيرة لليوناردو دافنشي؟». هذا هو السؤال الذي طرحه كل من زار متحف «اللوفر أبوظبي» يوم الحادي عشر من سبتمبر. وهو سؤال محفز لأولئك الذين يستهويهم الفن، وتشكل الثقافة لهم شرياناً يجب أن يظل نابضاً، بدونه تتحول الحياة إلى ممارسات ليس من أجلها خُلِق الإنسان، ولا من أجلها يعيش ويمضي في الحياة دون هدف أو بصيرة أو قيمة.

«هل رأيتم لوغن بول؟»، هذا هو السؤال الذي طرحه الخارجون من المجمع التجاري على كل من قابلهم يوم الحادي عشر من سبتمبر، بعد أن أمضوا يوماً طويلاً ظلوا يحلمون به ويخططون له، منذ أن أعلن «لوغن بول» أنه سيلتقي معجبيه في ذلك المجمع التجاري في تلك الساعة من ذلك اليوم، فتحقق لبعضهم حلمه، وظهر مثل نقطة صغيرة وسط طوفان من البشر، بينما لم يسعف الحظ البعض الآخر، فخرج من المجمع التجاري دون أن يحظى بفرصة التقاط تلك الصورة الحلم وسط المحتشدين، الذين بلغ عددهم أكثر من 15 ألفاً، وفق تقدير أحد رجال أمن المجمع في ذلك اليوم الذي لن يتكرر.

ليست هذه محاولة للتأثير في أحد، أو أخذكم إلى منطقة معينة، وإنما هي نظرة بانورامية، إذا صح لي أن أطلق عليها هذا الوصف، نحاول من خلالها أن نقرأ المشهد، وهو مشهد واقعي، إذا ما عرفنا أننا نعيش على أرض تتقبل الجميع، وتتيح الفرصة للجميع كي يعبروا عن ميولهم المختلفة، حتى لو كانت هذه الميول متنافرة في نظري أو نظرك.

Email