مفهوم جديد للأمن الديمقراطي

ت + ت - الحجم الطبيعي

لا تتردد الحكومات في فرض واتخاذ ما تراه ضرورياً لحماية الجموع الشعبية والحفاظ على كيان الدولة، وهذه الأهداف في حد ذاتها قد تكون دافعاً لتبني أفكار ومبادئ جديدة، مثلما أعلن الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي أمام مؤتمر عالمي عقد أخيراً في مدينة شرم الشيخ أنه يعتمد محاربة الإرهاب كحق من حقوق الإنسان في مصر، وبالتأكيد هذا الإعلان ليس مجرد كلمات عابرة ولكنه يعني الكثير من الأشياء متعددة الرسائل.

وقد يكون من الملائم وضع تصريحات الرئيس السيسي في إطار «سياسة الأمن الديمقراطي»، وتقوم فكرة الأمن الديمقراطي بشكل عام على أساس دعم سيطرة الدولة في مواجهة التطرف والإرهاب وضرب مصادر تمويلهما من الممارسات غير المشروعة وعلى رأسها تجارة المخدرات، وتهدف هذه السياسة إلى حماية السكان من خلال تكريس دور الدولة ودعم وجودها.

كما سبق الذكر بمواجهة الإرهاب والتطرف والممارسات الخارجة عن القانون لتهيئة الظروف الممكنة لتحسين الأداء الحكومي وجهود الدولة في دعم تنمية الموارد وتحسين الخدمات الاجتماعية، وبشكل عام يمكن التأكيد أن هذه السياسة تجعل «الدولة» وليس «الفرد» محور الاهتمام لتحقيق التنمية الاجتماعية حتى لو اصطدمت في بعض مراحلها التنفيذية بحقوق الإنسان، وهو ما أدى إلى جدل شديد حولها فيما يتعلق بحقوق الوطن وحقوق المواطن.

والحقيقة أن هذا الجدل يطرح قضية شديدة الأهمية بين السعي للتغيير والإصلاح وربما الحريات الفردية من ناحية وحماية الأمن الوطني والاجتماعي من ناحية أخرى، هذه الإشكالية شديدة الإرباك.

ولا شك في أن غالبية دول العالم النامي هي التي تعاني من هذه الإشكالية أكثر من غيرها في الدول التي استقرت بها الديمقراطيات في شكلها النهائي منذ عشرات السنين فاستطاعت أن تحقق التوازن بين قوى المجتمع بقواعد وقوانين وضوابط تلزم الجميع بالعيش تحت مظلة واحدة.

ويمكنها ذلك من اللجوء إلى إجراءات استثنائية في مواجهة مواقف طارئة دفاعاً عن بقاء الدولة ذاتها على حد قول حكوماتها، حدث ذلك في مناسبات عدة في بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة عندما تعرضت لأعمال شغب خطيرة هددت كيان الدولة فلجأت إلى إجراءات تتعارض بشدة مع حقوق الإنسان المتعارف عليها أممياً وفي دولهم بشكل خاص.

ويتذكر العالم جيداً تلك المشاهد المثيرة التي وقعت قبل نحو ثلاثة عقود من الزمان في ميدان السلام السماوي (تيان آن نين) في قلب العاصمة الصينية بكين عندما خرجت أضخم حركة طلابية في تاريخ البلاد للمطالبة بالديمقراطية والحرية، وكانت بالفعل حركة تمرد في منتهى الخطورة لما مثلته من تهديد صريح لبقاء الدولة الصينية خاصة وأنها كانت تحظى بدعم غربي وأميركي غير مسبوق.

ولنتصور للحظة أن الدولة الصينية تهاونت في مواجهة هذه التحركات بزعم الانتصار لحقوق الإنسان، ترى هل كانت الصين ستصل إلى ما وصلت إليه، حيث تحتل اليوم المرتبة الاقتصادية الثانية عالمياً، ومرشحة لتتبوأ المرتبة الأولى خلال سنوات معدودة؟

كذلك ما فعله الرئيس الروسي الراحل بوريس يلتسين في تسعينيات القرن الماضي عندما أخرج الدبابات إلى قلب موسكو لتضرب البرلمان (برلمان الدولة) الذي تمرد عليه، ولكنه نجح في وأد التمرد بالقوة حماية لبقاء الوطن.

الإجراءات نفسها تمثل مشكلة كبرى إذا ما لجأت إليها الحكومات في دول العالم الثالث، فسرعان ما تطبق عليها القيم والقواعد الكونية لحقوق الإنسان، وبالتأكيد وبالقطع لسنا هنا بصدد الدفاع عن الممارسات الديكتاتورية أو الحكومات والدول الاستبدادية ولسنا مع مصادرة الحريات العامة والشخصية ما دامت تمارس وفق القواعد والضوابط المتعارف عليها.

ولكن المراد هو تحديد واضح وصريح لحقوق الإنسان وحقوق الوطن، لأنه ببساطة هناك تداخل شديد بينهما بقدر ما يبدو أمام البعض أنهما متعارضان ولا يلتقيان.

هذا تحليل مغلوط لأن الدفاع عن الأوطان وسلامة المجتمعات والحفاظ على كيانها قد تكون أشياء على رأس حقوق الإنسان، والتفريط فيها هو أيضاً تفريط وإهدار لحقوق الوطن والمواطن على حد سواء، فأي حقوق تلك التي تبيح قتل الأبرياء وتدمير المنشآت والمؤسسات وتخريب الممتلكات وقتل رجال الشرطة والجيش ورجال الدولة وتعطيل المرور وإغلاق الشوارع ووقف عجلة الإنتاج بمزاعم الدفاع عن الحرية والديمقراطية؟

هنا يكمن لب المشكلة، عندما نعتبر أفكار الفوضى الخلاقة جزءاً من منظومة حقوق الإنسان التي ينبغي الدفاع عنها، إن ما نشاهده من فوضى وخراب ودمار وقتل وتشريد وعدم استقرار في سوريا والعراق وليبيا وكذلك مشاهد العمليات الإرهابية في مصر وغيرها كلها أمور تدفعنا للتفكير ألف مرة في تلك الحقوق المزعومة للإنسان تحت مظلة الفوضى الخلاقة، ومع رفضنا الكامل كما سبق الذكر للنظم الاستبدادية.

إلا أن المجتمعات في لحظات مفصلية خطيرة عليها الاختيار الرشيد بين الإصلاح التدريجي والمدروس والانتحار الجماعي الهمجي وعليها أيضاً أن تعرف جيداً كيف تحمي حقوق الإنسان من دون التضحية بضرورات بقاء الأوطان.

أغلب الظن أن الرئيس السيسي كان يشير لكثير من هذه الأمور بكلمات معدودات في تبنيه مكافحة الإرهاب كحق من حقوق الإنسان، وهو أمر مطلوب في سياق مفاهيم «الأمن الديمقراطي» لإحداث توازن بين حفظ الأمن من ناحية وحقوق الأفراد من ناحية أخرى حتى لا تتحول الصراعات والهجمات الإرهابية لحروب أهلية والأزمات لفوضى غير خلاقة.

 

Email