الاحتفال بـ «مئويات الآلام»

ت + ت - الحجم الطبيعي

قبل حوالي عشرين عاماً، وتحديداً ما بين نهايات عام 1997 وبدايات عام 1998، انطلقت من داخل الدولة المصرية دعوات، تحمل بعضها الصفة الرسمية، للاحتفال بذكرى مرور مئتي عام على غزو القائد الفرنسي الشهير «نابوليون بونابرت» للأراضي المصرية والتي اصطلح على تسميتها تاريخياً بالحملة الفرنسية عام 1798، أي بعد نحو عشر سنوات فقط من الثورة الفرنسية.

ولأن دعوة الاحتفال بهذه المناسبة كانت غريبة ومحيرة فقد انطلقت آنذاك أقلام نخبوية مصرية تهاجمها بشراسة وتفندها من حيث المبدأ، حيث لم تعرف أمة تحتفل بذكرى غزوها وسقوط الآلاف من أبناء شعبها ضحايا لممارسات استعمارية أجنبية(!) وبالفعل أثمرت الانتقادات عن إجبار أصحاب الدعوة على التراجع، ولكنهم قرروا تغيير المسمى إلى مرور مئتي عام على «التعاون الثقافي المصري- الفرنسي»، إلا أن هذا التحايل لم يخدع كل الناس كل الوقت فتعرض لانتقادات حادة مجدداً من قوى شعبية متعددة مما أدى لإلغاء الدعوة تماماً.

هذه الواقعة هي مقدمة كاشفة وربما شاملة في إيجاز لموضوع الحديث، حيث من المستهجن الاحتفال بمئويات أو عشريات من تسببوا في آلام الملايين من البشر وكانوا سبباً في اندلاع حروب ومعارك ومذابح وخسائر مادية ومالية واقتصادية، ومن المفترض في حالة إحياء ذكرى مثل هذه الأحداث والوقائع أن تتم من قبيل إدانة مثل هكذا تصرفات والدعوة إلى بذل كل الجهود الممكنة لضمان عدم تكرارها، بل والمطالبة بتعويض الضحايا ورد الحقوق إلى أصحابها حتى لا تتواصل آلام الماضي بالحاضر والمستقبل.

واستناداً إلى تلك الحقيقة فمن الطبيعي أن تواجه دعوة رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي للاحتفال بمئوية «وعد بلفور» بمنح اليهود وطن قومي في فلسطين ـ والتي تحل هذه الأيام - بحملات استهجان وإدانات غاضبة كونها احتفالاً بمناسبة استعمارية (اغتصاب فلسطين وتشريد مئات آلاف الفلسطينيين) فضلاً عن أن التبعات والتداعيات الدامية لهذا الوعد لا تزال قائمة ومستمرة حتى الآن.

وقد يكون بالفعل البون شاسعاً بين تداعيات الحملة الفرنسية على مصر التي لم تستمر سوى ثلاث سنوات فحسب حدث خلالها انفتاح مصر على العالم الحديث بمعارفه الجديدة، ووعد بلفور الذي سحق شعباً باغتصاب وطنه، إلا أن مجرد الدعوات للاحتفال بمثل هذه الذكريات تمثل بالفعل صدمة للشعور الإنساني والضمير العالمي وتستوجب موقفاً رافضاً تعبيراً عن الغضب العارم والحرص على تكرار الرفض لقرار ظالم حتى ولو بعد مئة عام من صدوره.

ولعل الدعوة إلى تبني حملات عربية ضخمة تحت إشراف جامعة الدول العربية ومنظمة التعاون الإسلامي وعلى مستوى كل دولة على حدة، ليس فقط لإدانة وعد بلفور، ولكن كذلك لإدانة قرار رئيسة الوزراء البريطانية بتكريم صاحب القرار المشؤوم، قد تكون متأخرة بعض الشيء، حيث كان من المفترض أن تنطلق قبل أسابيع وأشهر، إلا أن السلطة الوطنية الفلسطينية أحسنت التصرف عندما قررت مقاضاة بريطانيا لعزمها إحياء مئوية وعد بلفور وتكريم صاحبه، وبرر رياض المالكى وزير الخارجية الفلسطينى هذا التحرك بـ «تمادي الحكومة البريطانية بالإصرار على الاحتفال بمئوية وعد بلفور بدلاً من الاستجابة للمطالب الفلسطينية بالاعتذار عنه».

ولم يذهب المالكي بعيداً عندما أكد أن الموقف البريطاني «يمثل تحدياً كبيراً لرأى الشعب البريطاني والمجتمع الدولي وفلسطين حيال الموضوع ويعكس لا مبالاة للمسؤولية التاريخية والجريمة التي ارتكبتها بريطانيا قبل مئة عام»، معتبراً أن هذا الموقف «يجب مجابهته بإجراءات فلسطينية مضادة عن طريق الجانب القانوني برفع دعاوى قضائية ضد الحكومة البريطانية سواء في المحاكم البريطانية أو الأوروبية على ما تم ارتكابه من جرائم ضد الشعب الفلسطيني».

المثير في الأمر أنه كانت بالفعل هناك فرصة أمام بريطانيا للعدول عن موقفها والتراجع بطريقة مشرفة من خلال تقديم عدة مقترحات لمحاولة تصحيح الخطأ التاريخي الذي ارتكبوه بحق الشعب الفلسطيني وهو ما لم يحدث، بل واصلت ماي استفزازاتها بتصريحها المثير للاشمئزاز «إننا نشعر بالفخر من الدور الذي لعبناه في إقامة دولة إسرائيل، ونحن بالتأكيد سنحتفل بهذه الذكرى المئوية بفخر وعلينا أيضاً فهم الشعور الموجود لدى بعض الناس بسبب وعد بلفور، ونعترف أن هناك مزيداً من العمل يجب القيام به».

تصريحات ماي هي بالقطع تكرار للجريمة السياسية الأكبر في التاريخ الإنساني، ومواصلة للخروج عن كل التقاليد الدبلوماسية، ولا تقل خطورة عن الوعد المشؤوم ذاته، حيث تعكس توجهات سياسية متطرفة تدافع بشراسة عن نكران الحق الفلسطيني والانحياز المطلق لفكرة الاحتلال ودعم التمييز العنصري والاعتزاز بالإرث الاستعماري البريطاني.

على صعيد آخر قرر نشطاء بريطانيون إطلاق حملة شعبية لجمع 100 ألف توقيع لإجبار مجلس العموم البريطاني على مناقشة الطلب الفلسطيني للحكومة بالاعتذار رسمياً عن «وعد بلفور» وما ترتب عليه من آثار كارثية يعاني منها الشعب الفلسطيني، ولا شك في أن مثل هذا التصرف هو إجراء ضروري لإنعاش ذاكرة العالم بأن أرض فلسطين لا تزال مغتصبة وأن الملايين من أبناء الشعب الفلسطيني ما زالوا مشردين في كل دول العالم مع هضم حقوقهم جراء الوعد المشؤوم الذي لن نجد وصفاً دقيقاً له أفضل من القول الشائع «أعطى من لا يملك لمن لا يستحق» وهو ما تكرره بريطانيا في «مئويته» الدامية هذه الأيام.

Email