ثقافة الاعتذار

ت + ت - الحجم الطبيعي

يعتقد الكثير من الناس أن الاعتذار سمة من سمات الشخصية الضعيفة، وأن الأشخاص ضعيفي الشخصية هم فقط من يقدمون على الاعتذار، وهذا مفهوم خاطئ، فالإنسان القوي هو من باستطاعته أن يبادر ليتأسف عما أخطأ به من أفعال وأقوال، وضعاف الشخصية والنفوس هم الذين تأخذهم العزة بالإثم ويتهربون من الاعتذار عن الأخطاء التي يرتكبونها بمبررات أخرى واهية.

من الملاحظ أن هناك فجوة تحيل بين الكثير منا وبين الاعتذار، وكأن هذه الصفة لا تناسبنا أو أن عليها علامات استفهام جدلية، لهذا لا نعلمها لأجيالنا ولا نجعلها عادة في حياتنا، فالإنسان كثير الأخطاء، ومن الوارد جداً أن يرتكب خطأ بحق أي إنسان آخر وساعتها يلجأ إلى الاعتذار لإصلاح الأمور التي ساءت جراء فعلته وما ارتكبته يداه، وحقيقة فإن كثيراً منا يعلم أولاده منذ الصغر المكابرة على الخطأ، والالتفاف حول الموضوع بكافة السبل دون اللجوء للاعتذار كحل سريع يعيد الأمور إلى نصابها الصحيح.

تصدر قبل أيام قليلة هاشتاج «اليوم العالمي للاعتذار»، قائمة موقع التغريدات القصيرة «تويتر»، وعبر المغردون من كل حدب وصوب عن قيمة الاعتذار بالنسبة لهم، فالبعض كان لديهم الجرأة لأن يعتذروا على الملأ لأناس أخطأوا بحقهم والبعض تدارى وراء الكلمات ولم يستطع حتى الاعتذار بكلمات ربما لن تصل لأولئك الذين نقصدهم في الاعتذار لكي لا تنخدش صورتهم الملوكية أمامهم، فالبعض يظن أن تقديم الاعتذار يعيب شخصه المقدس المبجل وتجعل منه شخصاً غير مهم (بدون كاريزما) كما نسميها في بعض الأحيان.

حقيقة هناك الآلاف من المواقف أو المشاكل التي تمر في حياتنا والتي بمقدورنا أن ننهيها ونجعل لها نهاية سعيدة أو على الأقل صورة جميلة بدلاً من تلك الصورة السوداوية وذلك بالاعتذار، ولكن تكبرنا على هذه الصفة ومكابرتنا على الإقدام عليها تجعل المشاكل الصغيرة تتأزم وتكبر يوماً بعد يوم، فمئات الآلاف من حالات الطلاق أو الخصام أو المقاطعة كانت ستحل من قبل أن تصل إلى هذا الطريق المسدود بين الطرفين لو أقدم المخطئ بتقديم اعتذاره للطرف الآخر، وقابله الطرف الآخر بقبول الاعتذار، فكما للاعتذار فن فقبوله أيضاً فن وحكاية.

قد نستغرب عندما نشاهد أحد المسؤولين في إحدى الدول الغربية وهو يوجه خطابه تجاه شعبه معبراً عن اعتذاره عن قرار خاطئ قد قام به أدى إلى تأزيم الوضع أو أضر بمصالح الشعب، وقد نستغرب أكثر إن أقدم مسؤول عن الاعتذار لدولة أو أمة أخرى قد تضررت من إعلان حرب أعلنه رئيس البلاد السابق أو الأسبق أو حتى قبل مئات الأعوام راح ضحيته ملايين من البشر، وصحيح أن الاعتذار حينها لا يفيد ولا يعدل كفة العدالة إلا أنه اعتراف بأن الخطأ لن يتكرر في المستقبل.

من السهل جداً أن تجد مثل هذه الاعترافات تتصدر عناوين وأجندات مؤتمرات واجتماعات أممية، ولكن صعب جداً أو شبه مستحيل أن تجدها في أصغر اجتماع بين موظفين ومدرائهم أو حتى بين أب وأبنائه داخل الأسرة في الكثير من مجتمعاتنا، فالاعتذار بالنسبة لنا شيء كبير يفوق قدراتنا، ولهذا لم نفكر يوماً أن نعتذر لأجيالنا السابقة التي أخطأنا مثلاً في توصيل رسائل التنوير لهم، وجعلنا عقولهم منحازة للضلال والظلام والأفكار السوداوية.

ولو خرجنا من عباءة الخوف من الاعتذار لوجدنا كأمة إسلامية أو عربية أن هناك الكثير من الأشياء التي تستوجب الاعتذار عنها، فما قدمته أجندات وزارات التعليم، وخطابات المساجد في السنوات الماضية هي من أنتجت داعش وغيرها من الأحزاب والجماعات المتطرفة، ألا تجدون أن هذه الأفكار التي نشرناها في العالم الإسلامي وراح ضحيتها ملايين الأبرياء حول العالم تستوجب منا الاعتذار عما اقترفناه وعما خطته أيدي البعض منا.

الكثير من الأمور التاريخية تستوجب منا الاعتذار عنها، فلو راجعنا تاريخنا لوجدنا أن بعض ما نتفاخر به ونتخذه قدوة وإرثاً لنا هو في الحقيقية تأسيس لعوالم متطرفة داعية للموت وكارهة للحياة.

تأسسنا وأسسنا لهذه المفاهيم حتى في كلامنا العابر فدائماً ما نقول إن «الرجل ما يقول كلمتين»، وكأن الرجولة هي أن ترتكب الخطأ وأن تعلم أنه خطأ ولكن الرجوع عنه والاعتذار عنه ليس من شيم الرجولة، وليس هذا فقط فحتى بمنظورنا للشخص المعتذر دائما ما ننظر إليه بصفة الشخص المهزوز الضعيف، مع أننا لو تفكرنا قليلاً بلحظة تقديم الاعتذار وكيف أنها لحظة صعبة على النفس لوجدنا أن هذا الشخص على عكس الضعف تماماً، فهو تحدى نفسه ووجد أن قيمته تكبر مع كل اعتذار يصحح فيه خطأ كان سيؤثر على حياته وحياة غيره اليوم وكل يوم.

لقد آن الأوان أن نعيد ترتيب أولوياتنا التربوية والمنهجية التي علينا أن نعيد تشكيلها في أجيال المستقبل، والاعتذار وفنونه أحد أهم الأولويات التي يجب أن نوجدها في مجتمعاتنا فهو خُلُق وصفة عظيمة قد تحل الكثير من المشاكل، وتعيد الإنسان إلى إنسانيته التي سلخناه منها جراء أفكار الغلو والتشدد والهيبة المزعومة التي طغت على حياتنا فاستكبرنا على إنسانيتنا، وفي النهاية أنا أعتذر عن كل كلمة خرجت اليوم أو في الأمس كان لها صدى سبب لكم أوجاعاً أو جرحاً في أحاسيسكم، وأعتذر أيضاً لنفسي التي حرمتها طويلاً من التحرر الفكري الذي أعيشه الآن.

Email