النهر والمستنقع

ت + ت - الحجم الطبيعي

لمع في القرن الخامس قبل الميلاد فيلسوف يوناني عظيم هو هرقليطس. وقد لُقب هذا الأرستقراطي بالفيلسوف الغامض. وما زالت روحه الفلسفية حاضرة حتى يومنا هذا. وعندي أن هرقليطس هو الأب الشرعي لكل من هيجل وماركس.

فكرتان جعلت من هرقليطس شعلة فلسفية لا تخبو نارها: فكرة السيرورة «الصيرورة»، التي تعني التغير الدائم والتي عبر عنها بقوله: «إن المرء لا يستطيع أن يستحم في ماء النهر مرتين». وفكرة التناقض في قلب الوجود، التناقض الذي هو جوهر الحركة والتغير.

لست في معرض سرد أفكار هذا الفيلسوف، مقصدي هو أن أجعل من مفهوم الصيرورة الهرقليطي أساساً للسؤال: ما الذي يجعل من كائن إنساني معادياً للصيرورة، وراغباً في أن يستحم في ماء النهر مرات ومرات من دون أن يدري أن أمراً كهذا ضرب من المستحيل؟

ونحن من النادر أن نجد جديداً إلا ويقسم الناس بين رافض له ومنتصر، تكمن المفارقة في وعي نفي التغير بأن نافيها هو ثمرة التغير نفسه. إنه وهو يدافع عن واقعه ضد التغير لا يدري أن واقعه لم يكن أصلاً فكان، كما أن ماضيه هو الآخر لم يكن موجوداً فوجد.

‏‫والجديد المتجاوز هو روح التغير المجتمعي والمعرفي والعلمي، فليس كل تغير بجديد مولود متجاوز. وليس هذا فحسب، بل إن هناك نوعين من التغير المتجاوز: النوع الأول هو التغير الموضوعي بفعل حركة المجتمع نفسها، والنوع الثاني هو التغير الإرادي والذي يكون بفعل الإرادة السياسية أو الاقتصادية للتلاؤم مع تغيرات العالم ولتحقيق حاجات مجتمعية. وهذان النوعان مترابطان جداً.‬‬

وفي الوقت الذي تسعى فيه إرادة التغيير إلى التدخل لتسهيل مجرى النهر وتنظيفه مما يعرقل مساره، بل تنظيم مجراه، والحيلولة دون حصول فيضان قد يأتي سوءاً، نجد فيه إرادة الجمود تسعى لوضع الطين والحصى أمام مجرى النهر للحيلولة دون جريانه.

وهكذا ينشأ الاختلاف بين أنصار النهر وأنصار المستنقع، حتى ليمكن القول إن تاريخ الصراع الاجتماعي والمعرفي والعلمي ليس إلا صراعاً بين النهر والمستنقع. النهر رمز الجريان والمستنقع رمز الجمود والماء الآسن.

ويمكننا بكل اطمئنان قياس الحركات السياسية وأحوالها تأسيساً على هذا التقسيم والاختلاف بين النهر والمستنقع. فكل الحركات الاجتماعية والسياسية والمدنية التي تدفع بالمجتمع إلى الإمام في مسار التقدم الكلي، وبعقل يضع نصب عينيه مصالح البشر تنتمي إلى روح النهر. وينسحب هذا على الدول أيضاً، فالدولة التي تجدد نفسها دائماً في كل مجالات الحياة، وتدفع بقوى الإبداع إلى الأمام هي دولة هيراقليطية نهرية. وعلى العكس من ذلك فإن الحركات السياسية التي تعيش في الماضي وتسعى لتجميد التاريخ أو إعادته إلى سابق عهده القديم حركات تنتمي إلى المستنقع، والدول التي تجمد الحياة وتدعم هذه الحركات المستنقعية هي أيضاً دول مستنقعية.

فالحركات الأصولية المتطرفة المسلحة وغير المسلحة، سواء كانت ترفع شعار ولاية الفقيه أو شعار العودة إلى الخلافة هي حركات مستنقعية. والدول الراعية لهذه الحركات هي دول مستنقعية بالضرورة. فيما النقيض لكل ما سبق هو الحالة النهرية.

وعندي أن إيران هي المستنقع الكبير الذي يضخ ماءه الآسن ليزود به المستنقعات الصغيرة في بلادنا. وبالتالي تخوض مجتمعاتنا العربية معركتين معاً: معركة التجديد من جهة ومعركة مواجهة المستنقع الإيراني الكبير وتجفيف المستنقعات المحلية الصغيرة.

بقي أن نقول لبعض الدول العربية المترددة باتخاذ الموقف أن ليس أمامها إلا خيارين: إما أن تكون مع النهر ومعركة مواجهة المستنقع الكبير والمستنقعات المحلية وإما أن تنتمي إلى عالم المستنقعات. وتقول المصلحة والانتماء والعقل إن خيار الانتماء للنهر هو الخيار الوحيد فقط.

Email