بين المنصات والمحطات

ت + ت - الحجم الطبيعي

واضح أن السجال حول منصات التواصل الاجتماعي ومدى تأثيرها على وسائل الإعلام، التي يطلق عليها البعض تقليدية، سيبقى مستمراً إلى أن تظهر وسائل تواصل أخرى تجعل من منصات التواصل الاجتماعي الحالية وسائل تقليدية هي الأخرى.

وقد كان هذا السجال حاضراً بقوة في ملتقى الفجيرة الإعلامي الثامن، الذي عُقِد الأسبوع الماضي في عروس الساحل الشرقي إمارة الفجيرة الجميلة، بتنظيم من «هيئة الفجيرة للثقافة والإعلام»، تحت عنوان «الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي»، بحضور عدد كبير من الإعلاميين والأكاديميين، وعدد من نشطاء منصات التواصل الاجتماعي، الذين قدموا خلاصة تجربتهم للمشاركين في المنتدى.

وعلى الرغم من أن الصديق منصور المنصوري، مدير عام المجلس الوطني للإعلام، قال في كلمته، التي ألقاها في افتتاح الملتقى، إن منصات التواصل الاجتماعي باتت تشكل 70 في المئة من مصادر المعلومات التي يستقي منها الجمهور الأخبار، وفقاً لدراسات حديثة أجراها المجلس، وإن هذه الدراسات أكدت أن 42 في المئة من الشباب يعدون وسائل التواصل الاجتماعي وسيلتهم الإعلامية المفضلة، إلا أن العاملين في وسائل الإعلام التقليدية يصرون على أن وسائلهم ما زال لها احترامها ومكانتها وجمهورها، وأنه لا خطر على هذه الوسائل من منصات التواصل الاجتماعي، ويدعمون رأيهم هذا بعدد من الأدلة، مؤكدين أن الخطر الأكبر لا يقع عليهم، وإنما على المتلقي، الذي يتعرض للكثير من المعلومات الموظفة لخدمة أهداف خبيثة، والعديد من الأخبار التي تنقصها المصداقية، ويتم تداولها على هذه المنصات بشكل واسع من دون معرفة مصادرها، ومن دون التأكد من مدى مصداقيتها، بحيث يصبح نفيها أو تصحيحها بعد ذلك قليل الجدوى، أو عديمها.

كما أن الخطر يأتي من انسياق بعض وسائل الإعلام التقليدية إلى تحقيق سبق عبر انجرارها إلى بث بعض هذه المعلومات والأخبار من دون التأكد من صحتها، أو خطورة تأثيرها على المجتمع.

وقد ضرب الإعلامي المصري، مذيع البرامج الحوارية المعروف، خيري رمضان مثالاً على هذا الانجرار، عندما قام مذيع أحد البرامج الحوارية في إحدى القنوات المصرية الخاصة، بعد حادث الهجوم الإرهابي على أفراد الشرطة المصرية في منطقة الواحات مؤخراً، ببث مكالمات تتضمن تسجيلاً صوتياً مفبركاً منسوباً لأحد ضباط الشرطة الناجين من الحادث الإرهابي، الذي أودي بحياة عدد من ضباط وأفراد الشرطة المصرية.

وقد تم تداول هذا التسجيل على وسائل التواصل الاجتماعي، مما أثار الفزع بين الشعب المصري، من خلال محاولة إظهار قوات الأمن بمظهر الضعف والوهن، وتفوق العناصر الإرهابية في تعاملها مع قوات الشرطة، ما أدى إلى الإضرار بالأمن القومي المصري، وتثبيط العزائم والهمم لدى أفراد وضباط الشرطة المصرية وباقي الأجهزة الأمنية.

وقد قامت نقابة الإعلاميين المصريين بإيقاف المذيع الذي بث التسجيل عن العمل، إلى حين الانتهاء من التحقيق معه على خلفية ما جرى، مع متابعة التصرف الجنائي في الواقعة أمام النيابة العامة.

الواقعة التي ذكرها الإعلامي المصري الصديق خيري رمضان، ليست إلا مثالاً واحداً على ما يمكن أن تقع فيه أجهزة الإعلام التقليدية، مدفوعة بالخوف من منافسة منصات التواصل الاجتماعي لها، ولدينا أمثلة كثيرة على ذلك.

لكن السؤال الذي يُطرح عند الحديث عن هذه المنصات، في رأيي، هو ليس عن منافسة المنصات لوسائل الإعلام التقليدية، وإنما عن تأثيرها على المجتمع وهويته. ولعل هذا هو ما سلطت الضوء عليه الجلسة الأخيرة من الملتقى، وناقش المتحدثون، الذين كان لي شرف أن أكون واحداً منهم، خلالها محاور عدة، طرحت تساؤلات منها؛ ما إذا كان لا بد من الاحتفاظ بالموروث الثقافي الذي يشكل الهوية، أم أن التغيير هو السبيل للحفاظ على الهوية.

في هذه المسألة أرى أن الخوف من منصات التواصل ليس على وسائل الإعلام التقليدية التي تطور نفسها، وتستخدم هذه المنصات لزيادة رقعة انتشارها، وإنما على النشء الذين يتأثرون بنجوم هذه المنصات، ويتخذون منهم مثلاً أعلى، ويتمنون أن يكونوا مشاهير مثلهم.

وقد ضربت على هذا مثالاً عندما طلب مني ابناي الصغيران أحد أيام الجمعة الذهاب إلى أحد المجمعات التجارية في أبوظبي بين الساعة السابعة والتاسعة مساء، وألحّا في الطلب، لأكتشف أن سبب إلحاحهما هو أن أحد نجوم منصات التواصل الاجتماعي وضع في حسابه على الإنستغرام أنه سيكون موجوداً في هذا المجمع في هذا التوقيت، وأنهما يريدان رؤيته، الأمر الذي أثار فضولي فقررت أن أذهب معهما لأرى ما يحدث.

كان المشهد يومها مثيراً بحق، فقد رأيت العديد من الصغار، والكبار أيضاً، يجوبون المجمع التجاري شرقاً وغرباً، يسأل بعضهم بعضاً عما إذا كان قد رأى النجم الرقمي، وعندما عثروا عليه كانت لحظة تاريخية في حياتهم، وكانت الصور التي التقطوها معه، ووقع لهم عليها، وثائق مهمة، ما زال ابناي يحتفظان بها حتى اليوم، رغم مضي أكثر من أربع سنوات على هذا الحدث.

والأهم من ذلك هو أنني عندما اطلعت على حساب هذا النجم الذي كان يتابعه وقتها مليون و200 ألف متابع، وجدت أكثر من 90 في المئة من مقاطع الفيديو التي يقوم بتمثيلها ونشرها هزلية وتافهة، بل إن بعضها يتعارض مع العادات والتقاليد والقيم التي نريد أن نربي أبناءنا عليها.

لذلك أقول إن الخوف من هذه المنصات ونجومها ومحتواها ليس على محطاتنا ووسائل إعلامنا التقليدية، وإنما على أبنائنا ومجتمعاتنا، رغم الإيجابيات الكثيرة التي لا ننكرها لهذه المنصات.

Email