الفلسطينيون والإسرائيليون.. اصطفافات متعاكسة

ت + ت - الحجم الطبيعي

القناعة الأكثر رواجاً ومقبولية لدى الأوساط المعنية بالمصير الفلسطيني، أن المصالحة الوطنية الفلسطينية تجري راهناً على أرضية استمالة القوى الموصوفة بالتشدد وأولوية نهج المقاومة المسلحة، نحو الالتحاق بمؤيدي الحل السلمي والتسوية التفاوضية مع إسرائيل.

هذه حقيقة لا ينكرها إلا مكابر أو جاهل.. فما يحدث فعلياً هو أن حركة حماس وإن احتفظت ببعض منطلقاتها النظرية، هي التي تقترب عملياً من برنامج حركة فتح.

وبنظر البعض، لا معنى لهذا التحول سوى أن ما يسمى بمعسكر الواقعية والاعتدال الفلسطيني ومرحلة بناء الدولة، يتمدد بمنظوراته وتكييفاته، على حساب الملتزمين بخطاب زمن الثورة بكل صرامته ودوجمائيته الأيديولوجية.

هذا التحليل يستحق الكثير من التأمل؛ لكن التأكد من مدى صدقيته يحتاج إلى بعض الوقت. وبخاصة في ضوء الخبرات التي تقول إن القوى والتنظيمات المشبعة بالأفكار والمضامين الأيديولوجية، لا تتخلى فجأة عن سبلها أو تنحرف عن أهدافها ومناهجها وتجنح إلى المرونة و«البراجماتية» بسهولة.

مفارقة هذا المشهد الفلسطيني العام، أن ما يعتمل بين يدي العملية السياسية في إسرائيل يبدو نقيضاً ومخالفاً له على طول الخط. فالقوى السياسية التي طال الظن بيساريتها وانحيازها إلى التسوية السلمية مع الفلسطينيين، وأكبرها حزب العمل بزعامة آفي جباي، هي التي تتحرق الآن للتدثر بعباءة خصومها اليمينيين والانضواء تحت مظلتهم، وهؤلاء ليسوا سوى رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو ومحازبيه من المهووسين الدينيين وتنظيمات التوسع الاستيطاني.

حين صعد جباي إلى رئاسة حزب العمل في الصيف الماضي، قيل إن هذا القائد، وهو من أصل مغربي، سوف يعيد للعماليين المنسجمين مع «اليسار» مجدهم السياسي ونفوذهم في صناعة القرار الإسرائيلي. وإن ذلك سيتواكب مع انحسار في قوة المغرور نتنياهو ورهطه من المتطرفين. وقتذاك، وعملاً بملاحقة العيار إلى باب الدار، اتصل الرئيس الفلسطيني محمود عباس بالزعيم الصاعد الواعد، وهنأه بالمنصب الجديد، على أمل أن يتابع ويستأنف ما انقطع من سيرة اسحق رابين وتوجهاته السلمية قبل أكثر من عشرين عاماً.

اليوم، وبعد مرور ثلاثة أشهر لا غير، ظهر أن الطامعين في جديد إيجابي تجاه التسوية الفلسطينية، يضطلع به جباي والذين معه من أهل اليسار الإسرائيلي، لا يتحركون إلا عن تفكير رغبوي مشبوب بالعواطف والأمنيات.

لقد تبين لهم أن زعيم حزب العمل، الأقرب إلى جيل الشباب، ليس حصان السلام الذي يمكنهم الرهان عليه، وأنه قابل للتحول البوكيموني من حمامة إلى صقر. فهو يتبنى كل ثوابت السياسة الصهيونية الإسرائيلية تجاه التسوية مع الفلسطينيين: «لن نتخلى عن أي مستوطنة في إطار أي اتفاق مستقبلي مع الطرف الفلسطيني، وسوف يظل غور الأردن جزءاً من الشريط الأمني لدولة إسرائيل.

ولن نشارك في أي ائتلاف مع القائمة العربية المشتركة (عرب 48). ويجب أن نبقى الدولة الأقوى، ولا ينبغي الخوف من العرب بل على العرب الخوف من إسرائيل، فالقوة هي اللغة الوحيدة التي يفهمها الشرق الأوسط».

بهذه المواقف الصلبة المتعجرفة يلقي جباي حزبه، اليساري جدلاً، في حجر نتنياهو وقوى اليمين الحاكمة معه. وهنا يتأكد للمرة الألف أن إسرائيل دولة بلا يسار حقيقي، وذلك ببساطة لأن قواها السياسية تستمد مرجعيتها، على مستويي الفكر والحركة، من المثل الصهيونية البعيدة عن معتقدات اليسار ومبادئه بعد المشرق عن المغرب.

وليس على المعنيين بالاشتباك، حرباً أو سلماً أو بين بين، مع هذه الدولة بكل محتوياتها ومكوناتها السياسية، سوى ترتيب حساباتهم وفقاً لهذه البديهية.

Email