كركوك ومنطق «الدولة الوطنية»

ت + ت - الحجم الطبيعي

عند حديثهم عن أحقيتهم في كل أراضي ما يعرف بـ«كردستان العراق» يؤكد مسؤولو الإقليم أنهم يحترمون «التعددية» الموجودة في «كركوك»، وأن من حق جميع المقيمين على أرض المحافظة العيش في أمان وسلام في ظل سيادة الأكراد على إقليمهم بعد استفتاء سبتمبر الماضي.

ويدافع مسؤولو الإقليم باستماتة شديدة عن هذا الموقف على اعتبار حقائق تاريخية تجعل من «كركوك» جزءاً لا يتجزأ من الإقليم، ومن ثم يصعب حديث التخلي عنه لأي طرف، على حد قولهم وتصرفاتهم، ولكن في حقيقة الأمر أن التأمل الدقيق لهذا الموقف يعكس حالة من الخلط الشديد والارتباك الواضح في المواقف من جانب مسؤولي الإقليم والمدافعين عن تبعيته للإقليم الكردي.

بالتأكيد ليس هناك من يدين أو يرفض «التعايش السلمي» وقد استقر كمبدأ عالمي معترف به بين الدول المختلفة، فكيف لا يكون الأمر كذلك بين أبناء الإقليم أو الوطن الواحد، ومن هذا المنطلق وببساطة شديدة، يمكن القول إن مسؤولي «كردستان العراق» قد أدانوا أنفسهم بأنفسهم يوم قرروا الاستفتاء على استقلال الإقليم عن دولته الأم.. العراق.

فما ينطبق على «كركوك» من وجهة النظر تلك، من الأولى أن يجري ويسري بشكل شامل على كل أراضي العراق، فتعددية كركوك الدينية والمذهبية والعرقية التي تحتم وتفرض التعايش السلمي المشترك بين أبنائها هي صورة «مصغرة» من الأوضاع والحقائق الديموغرافية القائمة في كل ربوع ومقاطعات العراق من شماله إلى جنوبه ومن شرقه إلى غربه.

وإذا كان الحديث يدور بشكل جدي حول تكريس التعايش المشترك بين أبناء «كركوك» في سبيل الحفاظ على وحدة أراضي «كردستان العراق» فمنطق الأشياء يقول إن التعايش السلمي كان يجب أن يكون هو أساس الحفاظ على الدولة العراقية في إطار حدودها الجغرافية التاريخية المتعارف عليها بدلاً من تمزيق هذا البلد المهم إلى دولة كردية وأخرى سنية ودولة شيعية وأخرى تركمانية... إلخ.

والمنطقة العربية ودول الشرق الوسط عموماً في أمس الحاجة إلى التمسك بهذه القاعدة وسريان منطق «الدولة الوطنية» ولو على حساب حق تقرير المصير العشوائي، بل والمغرض في حالات عدة لخدمة دول بعينها بتقسيم المقسم وتفتيت المفتت وفقاً للتعبير الشهير عما تعرضت له المنطقة من مؤامرات عديدة في الماضي كما الحاضر، ومن الخطأ البيّن في هذا المقام المقارنة بين نماذج أو وقائع غير متكافئة لتطبيق المبدأ ذاته، فما يصلح للتطبيق في مكان ما قد لا يصلح بالضرورة للتطبيق في مكان آخر.

وأغلب الظن أن استفتاء كردستان الأخير يعد «طلقة رصاص» أولى وخطيرة في هذا الاتجاه، الذي سيؤدي في حالة استمراره إلى صراعات وأزمات وربما حروب لا تنتهي، مع تعقد المشاكل الطائفية وتعددها وتنوعها، وقد تكون أزمة «كركوك» واقعة كاشفة لنتائج وتداعيات ما قد يحدث جراء استمرار تلك المقاربات الخطيرة، وبمنطق «رب ضارة نافعة» فإن أزمة كركوك تكشف أفضلية التعايش المشترك داخل الدولة الوطنية متعددة الأعراق والديانات والمذاهب بحقوق عادلة ومتساوية في إطار اتحادي أو أي شكل آخر من أشكال الوحدة الوطنية حفاظاً على حقوق أبناء الوطن الواحد بدلاً من تمزقه وتفتته.

فمحافظة كركوك ومحيطها، كما هو معروف، من المناطق العراقية التاريخية المهمة، يقطنها العرب والكرد والتركمان والسريان، وتعايش فيها المسلمون والمسيحيون واليهود جنباً إلى جنب حتى ما بعد الحرب العالمية الثانية، وهي شديدة التعقيد في تركيبتها السكانية بحيث يمكن تقسيمها هي ذاتها إلى دويلات متناهية الصغر إذا ما تم تطبيق حق تقرير المصير على كافة طوائفها على غرار ما فعل الكرد في «كردستان العراق»!! وهي كذلك من المناطق العراقية المهمة والحيوية، ذات الثروات الاحفورية كالبترول والغاز الطبيعي، علاوة على خصوبة أراضيها الزراعية، بالإضافة إلى موقعها الجغرافي والتجاري المتميز والذي يجعل منها حلقة وصل بين وسط العراق وشماله، وتميزها بقربها الشديد من بغداد.

وترصد بعض التقارير استغلال القوات الكردية الفوضى التي حصلت بعد سقوط النظام العراقي وانهيار الدولة عام 2003، بفرض سيطرة ميليشياتها البيشمركة على محافظة كركوك والقيام بحملات شعواء لمحاربة العسكريين والموظفين والعمال العرب بحجة محاربة «البعث» ودفعهم لترك المدينة هم وعوائلهم، وبنفس الوقت قامت بجلب الأكراد الذين هم من أصول سورية وتركية وإيرانية ومنحهم وثائق مزورة على أنهم من نفوس كركوك.

وبرغم ذلك فهذه الحملة «التكريدية» لن تغير من الحقائق القائمة في «كركوك» ولن تنزع فتيل الأزمة الخطيرة بعدما باتت المدينة فوق برميل بارود قابل للانفجار في وجه الجميع لإصرار كردستان العراق على ممارسة إجراءات تتنافى مع حق التعايش السلمي ومنطق الدولة الوطنية.

Email