الدبلوماسية الغائبة في إيران

ت + ت - الحجم الطبيعي

التحليل السياسي لمضمون التصريحات التي تصدر من مسؤولين إيرانيين، وعلى مدى العقود الثلاثة الفائتة، يكشف أن طهران تتبنى نمطاً يمكن وصفه بدبلوماسية التهديد في إدارة علاقاتها مع العالم العربي والعالم.

في كل التعبيرات السياسية، التي ترد على ألسن وزراء ومسؤولين، مدنيين وعسكريين، هناك إشارات تهديد دائمة، والإشارات التي يمكن اعتبارها إشارات طمأنة للعالم والمنطقة هي الأقل إن لم تكن الأندر وسط هذه التصريحات.

آخر التصريحات ما جاء بخصوص الاتفاق النووي الإيراني، واحتمال تغير موقف واشنطن منه، وتصريحات أخرى، تتعلق باحتمال تصنيف الحرس الثوري الإيراني منظمة إرهابية، وكل النصوص التي رد بها سياسيون إيرانيون، حملت أسلوباً قائماً على التحدي، وتوجيه التهديدات إلى العالم والمنطقة من الرد الساحق إلى أي شيء آخر ولم نسمع أي تعبيرات أقل عدائية وسط هذا المناخ.

هي ذات لغة الأنظمة الشمولية في العالم العربي، والتي سقطت، وسقط معها أسلوبها، مثلما هي ذات لغة الأنظمة التي بادت في العالم، لأن العلاقات الدولية لا يمكن أن تتفهم أي رد سياسي، قائم على التهديد، بل إن هذه الطريقة تعبر في الأساس عن مزيد من الأخطار والعنجهية والتحدي والغطرسة وتخالف أيضاً العلاقات السياسية والدبلوماسية القائمة على استيعاب أي طرف آخر، والتعبير عن الرغبة بحل الإشكالات حتى في أعقد الظروف.

في حالات محددة جداً، قد يصف البعض الدبلوماسية الإيرانية بالعاقلة، لكنها في الأغلب دبلوماسية منفلتة، وعند وجود أي خطر من جانب أي دولة في العالم تنتقد إيران أو توجه لها تهديدات أيضاً، يتم الرد بذات اللغة، أي لغة التهديد، التي تنفلت في تعبيراتها على الرغم من أن القوى في العالم غير متساوية.

لا يمكن هنا، اللجوء إلى تبريرات تقول إن العالم يهدد إيران على مستويات معينة، وبالتالي فإن الرد على عواصم العالم، بذات اللغة، إيران تلجأ إلى أسلوب آخر عبر تكليف مسؤولين من درجات سياسية أقل للتعبير بطريقة غير لائقة عن موقف إيران، أو يتم تكليف عسكريين لتوجيه هذه التهديدات بدلاً من الوزراء، بما يمنح طهران مساحة للتنصل من هكذا تصريحات إذا قررت ذلك، لكن هذا الأسلوب واضح ومكشوف، ولا ينطلي على دول العالم التي تحلل كل كلمة، وكل إشارة، وتعرف ماذا يعني هذا التصريح أو ذاك.

الطريقة الإيرانية في التعبير الحاد عن الموقف باتت مدرسة، ولربما كوريا الشمالية، تقلد ذات الأسلوب، ولا تعرف من أين استقت إيران هذه الطريقة، عبر جعل كل تعبيراتها السياسية قائمة على تهديد الجوار وتهديد الآخرين، وهو أمر خطير لأنه يؤكد أن إيران لن تتحول في يوم من الأيام إلى قوة سلام أو على الأقل إلى قوة منشغلة بتنمية داخلها، وتحسين حياة الشعب الإيراني، بدلاً من هذا التوتر، وهذه العلاقات السلبية القائمة على بث القلق في أوصال العالم.

إذا عدنا إلى تجارب دول وأنظمة، لم تكن قدراتها مكتملة أو قوية إلى حد كبير، ومارست ذات الطريقة، أي الخطاب السياسي المحمل بتعبيرات التهديد الثوري والغضب، لاكتشفنا أن نهايات هذه الأنظمة كانت متشابهة وواحدة برغم أنها في مناطق مختلفة في العالم، والسبب في ذلك يعود إلى عدة أمور.

أولاً أن قوة الطرف الذي يستبدل القوة الحقيقية بالتهديد لن تصمد طويلاً، وسوف تنكشف لأن التهديد السياسي يعبر في الأغلب عن ضعف وعن غياب للإمكانات.

الثاني يأخذنا إلى صبر العالم على أي دولة أو نظام يوجه تهديدات، وهذا الصبر له حدود، وقد أثبتت التجارب أن دول العالم القوية قد تستوعب مؤقتاً لغة التهديدات لكنها في المحصلة سوف تسعى بكل الطرق إلى تحطيم بنية النظام الذي يتبنى هكذا لغة.

ثالثاً يرتبط باعتبار يقول إن عواصم العالم تعتبر لغة التهديد من أنظمة أضعف، بمعايير القوة والإمكانات، مؤشر على ذهنية أي نظام وتطلعاته، ولا تراها مجرد انفلاتات لغوية في التعبير من جانب مسؤولين من درجات أقل أو أعلى، ويتم التعامل معها باعتبارها دليلاً على الكيفية التي يدير بها أي نظام وجوده.

التصريحات السياسية والإعلامية، التي وردت على ألسن مسؤولين إيرانيين، وتعبر عن رغبة بحل الإشكالات مع العالم، أو تحسين العلاقات مع دول الجوار العربي، أو البحث عن حلول للأزمات، أو تبدي الرغبة بشيوع الأمن والاستقرار، تصريحات قليلة جداً مقابل جبال من التصريحات المنفلتة، والتي تعبر عن مراهقة سياسية لا تفهم الكيفية التي يدار بها العالم.

هذه التصريحات تؤشر من جهة أخرى على إصرار إيران أن تبقى قوة تهديد في المنطقة في ظل غياب كل المؤشرات على رغبتها بالتصالح مع جوارها العربي والعالم، وفي كل الأحوال فهي لغة ستقود إيران نهاية المطاف إلى مصير سيئ شبيه بكل الدول التي تبنت هكذا مفردات.

دبلوماسية المصالحة غائبة في إيران. هذه هي الخلاصة الأهم.

Email