غزو المستقبل

ت + ت - الحجم الطبيعي

يروي لنا التاريخ وتشير شواهد الواقع أن الشعوب والدول على حالتين، أولهما عاجزة عن الإمساك بالحاضر أو التعامل معه والسير - كما النمل الفارسي - في خطوط متداخلة ومتقاطعة، وبالتبعية اعتلال النظرة إلى المستقبل، ولا يتبقى أمامها غير استدعاء الماضي، والعيش على أمجاد من سبقوهم، معتقدين أن هذه الحالة كفيلة بأن تعيدهم إلى ما كانوا عليه، والحالة الثانية على طرف نقيض من سابقتها، وهي التنكر لكل تاريخها وقطع الصلة به، باعتباره معوقاً لحركتها ونهضتها، وأن التنصل منه هو السبيل إلى النهوض، والنتيجة أجيال بلا ذاكرة أو مرجعية تدير حركتهم، كما الريشة تفعل بها الرياح كما تشاء، لا إرادة لها، ولا قوة تصونها أو تحميها، لا حاضر لها ولا مستقبل، كلا الحالتين فقدت فيهما الشعوب البوصلة والطريق السوي، مهما ملكت من الموارد والمقدرات فإنها تصبح هباء منثوراً.

غير أن هناك حالة أخرى، جديرة بالنظر والتوقف، نظرت إلى ماضيها، باعتباره منبع الذخر والقوة الدافعة لها والمرجعية المؤطرة لحركتها، واستوعبت حاضرها وأدركت أدواته، فارتقت كل يوم على سلم الحضارة والرفاه الإنساني، غير أنها لم تقنع يوماً بما تحققه من نجاحات، لذا كان المستقبل هو الميدان الذي أعدت نفسها لها ولم تنتظر أن تكون خارجة عنه، بل أعدت له العدة وجهزت نفسها لغزوه، هكذا استطاعت الإمارات أن تحقق المعادلة الصعبة، وهي التي حافظت عليها، تلك الحالة من الاعتداد بتاريخها والنظر بالإكبار على ما حققه جيل المؤسسين باعتبارهم قدوة في بناء وطن لا يرضى بغير الرقم واحد، وما تركوه من أمانة باعتبارها ذخر الأجيال، في الوقت الذي جعلوا من حاضرهم مطية لمستقبل ليس فيه مكان للمتواكلين أو المترددين أو القانعين، والشاهد ما قاله صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد «بأن من يترك نفسه للصدف والظروف لن يصنع مستقبله، والتخطيط أول خطوة في صنعه».

لذا كان غزو المستقبل هو التوصيف المطابق والمتوافق مع ما تقوم به الإمارات من استنفار والانطلاق بثقة نحو المستقبل، واعتبار أن عام 2071 يبدأ من 2017، وأن هذا الغزو لن يكون إلا بمشاركة الجميع باعتبار أن كل مواطن تقع على عاتقه مسؤولية في مسيرة النصر المظفرة، وأن تقدم دولة الإمارات ونهضتها ورقيها مسؤولية جماعية، فمهما خططنا للتنمية ووضعنا الاستراتيجيات لن نصل إلى أهدافنا ما لم تتضافر الجهود وعملنا كفريق واحد باعتبار أن الشعب هو صانع التنمية، وهو المستهدف منها، وهو الضامن لاستمرارها والمحافظ على مكتسباتها.

ولا شك أن هذا الغزو للمستقبل جعل من الإنسان الثروة الحقيقية وليست الموارد الطبيعية التي تتسم بالتغير، غير أن الإنسان الواعي بما يريد الساعي لتحقيقه هو ضمانة الفوز، وكما أن هذه النظرة تسعى إلى تحقيق أهداف تنموية غير أنها تحمل إرثاً أخلاقياً، لم يكتف بإسعاد الأجيال الحالية ولكن الحرص على الأجيال القادمة لتعيش في رخاء أكثر، وتعليم أفضل، واقتصاد أقوى، وبنية تحتية مستقبلية متطورة، هذا البعد الأخلاقي وحقوق الأجيال في مستقبل آمن لم يغب يوماً عن القيادة الرشيدة من لدن المؤسسين، وسيظل مادام النبع واحداً، وهو نبع الخير والرشاد.

ولا شك أن المبادرات التي طرحت وفرق العمل التي تكونت لهي دلالة على أن رؤيتنا هي صناعة وطنية خالصة بعقول أبناء الإمارات، وسوف تحقق نجاحات بسواعدهم في مجالات الاقتصاد، والبنية التحتية، والإسكان والخدمات، والشباب والتوطين، والطاقة، والتعليم، والإعلام، وهو الأمر الذي يؤكد واقعية تلك الرؤية وتماسها مع حاجة المواطنين وتحقيق ما يفوق التطلعات، رؤية تحمل بين طياتها طموحات كبيرة لن يصلح معها إلا أنماط من التفكير الابتكاري، آية ذلك تلك الـ 120 مبادرة التي ستعلن نتائجها خلال عام 2018.

ولا شك أن إنشاء المدينة الأكبر عالمياً في مجال الفضاء على أرض الإمارات يشكل نموذجاً علمياً صالحاً للتطبيق على المريخ، ذلك المشروع الذي يوضح كيف تنظر الإمارات إلى المستقبل الذي ستتحدد فيه القوى على الأرض بين الشعوب في مختلف المجالات بما تملكه في الفضاء، وهو الأمر الذي تحرص عليه القيادة الرشيدة من خلال توحيد العمل الحكومي كمنظومة واحدة على المستوى الاتحادي والمحلي لبناء خدمات المستقبل في الدولة لأجيال المستقبل.

وفي يقيني أن هذه الرؤية الاستراتيجية سيكون لها انعكاساتها على منظومة العمل في الدولة بكل قطاعاتها من التخطيط المستمر، والعمل الدؤوب، والتفكير والابتكار، والقدرة على الإنجاز بفاعلية، والتقويم والتقييم بين كل الدوائر والهيئات، ليكون كل أبناء الوطن في حالة استنفار ذهني يبحث عن المزيد والجديد لكي ينال شرف أن يكون ضمن رؤية الإمارات 2071.

Email