أوروبا «الماكرونية» .. و«أطلنطي» السريع

ت + ت - الحجم الطبيعي

لا شك في أن أوروبا قد تنفست الصعداء وساد في ربوعها شيء من الارتياح لفوز المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل بالانتخابات التشريعية الأخيرة في بلادها، وبرغم بروز التيار القومي المتشدد وتزايد حضور «النازيين الجدد» داخل البرلمان (البوندستاغ)، إلا أن انتصار حزبها جاء متمماً لفوز ماكرون برئاسة فرنسا قبل أشهر عدة، في رسالة تتحدى الشعبوية والتيارات المتطرفة التي كانت تتأهب لفرض توجهاتها على القارة الأوروبية.

هذا الفوز المزدوج أعطى أملاً جديداً في الحفاظ على أوروبا المتماسكة والموحدة - حتى ولو كانت «متعددة السرعات» استجابة لعدد من المتغيرات السياسية التي طرأت على القارة الأوروبية ـ بعدما ظهرت مخاوف عدة ظهرت تحديداً مع «البريكست» البريطاني وبروز احتمالات تكرار التجربة في قوى أوروبية تقليدية كبرى مثل ألمانيا وفرنسا مع تصاعد التيارات المتطرفة التي تعلي من شأن الشوفينية القومية ورفض الأجانب المهاجرين واللاجئين.

المسألة الأوروبية - إذا جاز هذا التعبير- تتفاعل منذ طرحت إدارة الرئيس الأميركي الأسبق تعبير «القارة العجوز» في وصف أركانها للقوى التقليدية داخل أوروبا إثر خلافات عابرة للأطلنطي حول جملة من السياسات الدولية، ومن وقتها بالفعل غرقت القارة الأوروبية في رحلة البحث عن الهوية أو تجديد الذات تجنباً للجمود والشيخوخة التي ضربت بالفعل في بعض أركانها، ولعل تلك العوامل كانت الباعث الأساسي للمفاهيم والمبادئ الجديدة التي طرحها الرئيس الفرنسي في أول خطاب له أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة الشهر الماضي، وهي منظومة قيمية جديدة تحدد ملامح «أوروبا الماكرونية».

من حيث المبدأ، الرئيس ماكرون من المؤمنين بأن بريطانيا يمكن أن تجد مكانها مجدداً داخل اتحاد أوروبي «متعدد السرعات خاضع للإصلاحات»، إلا أن رؤيته لم تتوقف عند هذا الحد ويمكن اعتبار مقاربته في هذا الشأن بمثابة طرح «ثوري» في سبيل تجديد شباب «القارة العجوز»، حيث ارتكزت على تعزيز الدفاع والأمن الأوروبيين عبر إنشاء «قوة تدخل مشتركة» أوروبية واعتماد موازنة دفاع مشتركة و«عقيدة مشتركة» للتحرك، وإنشاء أكاديمية أوروبية للاستخبارات ونيابة أوروبية لمكافحة الإرهاب وقوة مشتركة للدفاع المدني لمواجهة الكوارث الطبيعية، إلى جانب مكتب أوروبي للجوء وشرطة أوروبية للحدود، وفي السياق ذاته امتلك ماكرون الشجاعة للحديث عن أوروبا «ضعيفة جداً وبطيئة جداً وغير فاعلة»، معتبراً أنه من الضروري أيضاً إنهاضها في مواجهة «التحديات الكبرى» في العالم.

لا شك في أن الرئيس الفرنسي ــ ووفقاً لرؤية عديد المحللين - يدرك أن تمدد اليمين المتطرف في أوروبا سببه بالدرجة الأولى أن الاتحاد الأوروبي لا يوفر الحماية للمواطنين الأوروبيين، لعجزه عن منع وقوع الأعمال الإرهابية وردع الإرهابيين، مبررات اليمين المتطرف تلك تعزو تلك الأحداث أساساً لاتفاقية شنجن التي فتحت الحدود أمام التنقل الحر، والذي يتم من غير رقيب أو حسيب، كذلك فإن الاتحاد لم ينجح في وقف تدفق موجات اللاجئين والنازحين باتجاه البلدان الأوروبية، ووفق الادعاءات اليمينية المتطرفة ذاتها، فإن موجات الهجرة «تهدد» الهوية الأوروبية المسيحية وتنسف النسيج الاجتماعي وتجلب المشاكل الأمنية وتدمر أنظمة الرعاية الاجتماعية وتخطف فرص العمل من المواطنين الأوروبيين.

كل هذه الاتهامات يعرفها ماكرون لأنها واجهته أثناء الحملة الانتخابية، لكن معسكره يرى أن وصوله إلى قصر الإليزيه وضع حداً مؤقتاً لموجة صعود الأحزاب اليمينية المتطرفة وأن انتصاره في المنافسة الانتخابية على مارين لوبان مرشحة «الجبهة الوطنية» هدأ إلى حد بعيد اندفاعة اليمين المتطرف نحو السلطة، إلا أن النجاح الذي حققه حزب «البديل من أجل ألمانيا» بحصوله على نحو 13 في المئة من أصوات الناخبين وتمكنه من إدخال 96 نائباً إلى البوندستاج في برلين، يؤكدان وجود الخطر، ما يجعل - وفق القراءة الماكرونية - إجراء إصلاحات أساسية إلى الاتحاد الأوروبي أمراً ضرورياً.

ويرصد المراقبون قناعة راسخة في باريس بأن النجاح على المستوى الأوروبي يفترض أن تكون أسسه نجاحات الداخل، ليس الداخل الفرنسي فقط ولكن الداخل الأوروبي عموماً وقناعة دول أوروبية داخل الاتحاد وخارجه بأهمية الإصلاحات والمقترحات التي يطرحها «ماكرون»، وهي بالتأكيد مقترحات ستجد أصواتاً تعارضها بقوة، خاصة من جانب اليمين المتشدد، ولكن تبقى نقطة أخرى لها أهميتها تتمثل في العلاقات الأوروبية - الأطلنطية.

فكثير من الأفكار والمقترحات التي طرحها ماكرون أمام الأمم المتحدة تمثل أساساً لعقيدة أمنية أوروبية مستقلة تكرس فكرة الاندماج الوحدوي أكثر وأكثر بحيث تتحمل أوروبا مسؤولية الأمن والدفاع والتعامل مع قضايا العالم، وبرغم أن مثل هذه التوجهات ربما تحمل مؤشرات على سياسة جديدة تبتعد بأوروبا عن حلف الأطلنطي، أو أنها تستجيب لبعض أطروحات الرئيس الأميركي دونالد ترامب بضرورة تحمل أوروبا جانباً كبيراً من مسؤوليات الأمن والدفاع، إلا أنه لا يزال من المبكر جداً الحديث عن انسلاخ أوروبا عن الحلف لأن ما تحدث عنه ترامب كان محصوراً على وجه التقريب في مسألة التمويل ــ بعيداً عن العقيدة الأمنية المشتركة - بحيث تخصص أوروبا نسباً أعلى من ميزانياتها لتغطية نفقات الحلف دون أن تتخلى واشنطن عن التزاماتها الدفاعية، وفي الوقت ذاته فإن الأمر يحتاج إلى مزيد من الوقت لمعرفة ما إذا كان هدف «ماكرون» في طرحه للإصلاحات الأوروبية يتضمن كذلك الدعوة إلى سياسات أطلنطية أكثر مرونة أو «حلف أطلنطي» متعدد السرعات، أم أن الأمر ينطوي فقط على إصلاحات أوروبية ضرورية داخل بيت الطاعة الأطلنطي؟!

Email