التجزئة العربية وطبعتها الأوروبية

ت + ت - الحجم الطبيعي

الاتحاديون الأوروبيون، على الصعيدين القومي الداخلي أو الاتحادي القاري، يعيشون في هذه الآونة حالة من الغضب والقلق. تكمن علة هذا الإحساس المقبض في التخوف من تفشي الأفكار الانعزالية والتعصب الشوفيني في الربوع الأوروبية. إنهم يتصورون عن حق بأن الجماعات الأوروبية التي تطمح إلى الانفصال، بعد قرون من التعايش داخل حدود الدول القومية الراسخة.

لا يمكن لها أن تنتصر لفكرة أوروبا الاتحادية وراء هذه الحدود.

يعتقد هؤلاء الاتحاديون أن سكان إقليمي كتالونيا والباسك في إسبانيا والاسكوتلنديين في بريطانيا، لا يسعهم الانحياز للتيار الاتحادي في عموم القارة، فيما هم عاكفون بقوة على فكرة الاستقلال في دول خاصة بهم، ولا تشكل حالات هذه الأقاليم سوى النماذج الأكثر سخونة وإلحاحاً على نزعات التشظي وأشواق التجزئة التي تعتمل في أحشاء القارة العجوز.

هناك دول أخرى تبدو مرشحة لبروز مثل هذه النزعات ذات حين أو آخر، منها بلجيكا وسويسرا وهولندا، من دون استثناء فرنسا وألمانيا ذاتيهما وهما القلب النابض لأوروبا الاتحادية.

من حق الاتحاديين أن يتأبطوا شراً جراء هذا المشهد. فبالأمس القريب جداً كانوا يقاومون فكرة انفصال بعض الدول الأعضاء، فإذا عليهم من الآن فصاعداً النضال ضد الميول الانعزالية داخل البنيان الاجتماعي الثقافي السياسي لبعض هذه الدول. ولعل لسان حالهم يضمر ما قاله المتنبي: وسوى الروم خلف ظهرك روم.. فعلى أي جنبيك تميل.

قبل مائة عام بالتمام تآمر دهاة من الساسة الأوروبيين، لأجل تفتيت بعض الكيانات الكبيرة في عالم الجنوب. وكانت اتفاقية سايكس بيكو المثل الأشهر في ذلك، ثم إن أولئك المتنفذين دولياً، وقفوا خلف تخطيط حدود الدول الأفريقية على نحو لا يراعي الاجتماع السياسي لشعوب القارة السمراء؛ الأمر الذي أدخلها في نفق طويل من التوترات والصراعات.

ترى هل يصح الافتراض أننا راهناً إزاء بضاعة التجزئة والتفتيت وهي في طور الارتداد إلى أصحابها؟

رب قائل إن النزعات الانفصالية لدى «القبائل الأوروبية» لم تصل بعد إلى مستوى الظاهرة؛ لكن الرد المعقول على مثل هذا الطرح هو نيران الظواهر الاجتماعية السياسية الفارقة لا تندلع بحيثية مفاجئة أو سريعة؛ وإنما تنضج وتستوي على سوقها عبر مسار زمني ممتد. هذا ما حدث بين يدي يوغسلافيا وتشيكوسلوفاكيا السابقتين، وتجربة تفكك الاتحاد السوفييتي التي أخرجت من عباءتها خمس عشرة دولة بعد ستين عاماً من سيطرة موسكو.

لا خير يرجى عموماً من وراء الميول الانفصالية للجماعات التي عاشت طويلاً في إطار قومي، لم تتمكن أصلاً من تكوين دولة كاملة الأوصاف كالقومية العربية. مشكلة أصحاب هذه الميول في الرحاب العربية أنهم مأخوذون بالعاطفة ومشدودون إلى الشكل ومنصاعون للدعم والتحريض الخارجيين.

ولا يتعظون بمصائر الجماعات التي نجحت في إنشاء كينوناتها بناء على المنطق ذاته. نقصد بذلك نموذج انفصال جنوب السودان؛ الذي أفضى عاجلاً إلى مفاقمة أوضاع الجنوبيين حتى راح بعضهم يترحم على زمن السودان الأم.

المعني هنا، أن الدول العربية التي نجمت عن «سايكس بيكو الأولى» وتوابعها، فشلت غالباً في تحقيق مرادات وتطلعات شعوبها، فكيف الحال بهذه الشعوب إذا ما تحللت إلى وحدات (دول) منمنمة أصغر؟!

ونحسب أن السياق الأوروبي لا يبتعد كثيراً عن هذه الدلالة. ومما يصح قوله في ذلك أن بريطانيا بقضها وقضيضها؛ العظمى سابقاً، بدأت تستشعر العواقب السيئة والتحديات المريرة لخروجها من الاتحاد الأوروبي، فما بالنا بالكيانات الأوروبية التي ستنشأ عن دعوات واستفتاءات الانفصال؛ والتي ستكون أقل قدراً بكثير من القطب البريطاني.

 

Email