حريق كردستان

ت + ت - الحجم الطبيعي

مع أفول نجم تنظيم داعش الإرهابي وقبله «القاعدة» الظلامي، لابد من حريق آخر يشغل المنطقة العربية، فجاء هذه المرة من كردستان العراق. وفي كل تلك الحرائق ثمة فتيل واحد تشعله يد واحدة عليها وشم نجمة داود. لا أحد ينكر على الكرد حقهم في تقرير المصير، لكن لا أحد أيضاً ينكر على العراق الموجود جغرافياً قبل الكرد حقه في الحفاظ على وحدته.

لقد تحمل مسعود البرزاني وعائلته وقيادة حزبه وحلفائه من القوى الكردية مغامرة الإقدام على استفتاء إقليم كردستان، ونال انحياز 92 بالمائة من المصوتين لصالح «الاستقلال»، ولكن نجاح الخطوة الأولى غير كافية للحكم على النتائج السياسية الكاملة المتوخاة من هذا القرار من قبل أغلبية القوى السياسية العراقية، والعداء من البلدان الثلاثة المحيطة بالإقليم، من دون أن يكسب طرف واحد معلن سوى المشروع الاستعماري التوسعي الإسرائيلي.

ولكن الموقف الإسرائيلي لن يشكل رافعة له وغطاء لحمايته، بل سيتحول إلى عبء يلاحقه بشكل مستمر، إذ كيف يتباهى بعض الكرد أن تل أبيب تقف معهم في وجه من يضطهدهم، وتل أبيب تضطهد الشعب الفلسطيني بأسره وتحتل أراضي ثلاثة بلدان عربية؟

فالذي صرح به الجنرال سيروان برزاني لوكالة الأنباء الروسية نوفوستي قائلاً إن كردستان العراق لم تتلق مساعدات عسكرية من تل أبيب، ولكنها تتلقى دعماً سياسياً، من يتتبع ردود الأفعال الكردية على نتائج الاستفتاء وتداعياته الصعبة، يظن أن «الجماعة» أخذوا على حين غرة، ولم يكونوا متحسبين ليومٍ كهذا، مع أن كثرة من أصدقائهم من غير الكرد، وبعض الكرد أحياناً، لطالما حذّروا من مخاوف حقيقية من مغبة عودة «القضية الكردية» إلى الوراء بدل تقدمها للأمام في ضوء نتائج «الاستفتاء».

الكرد بعثوا برسائل لأصدقاء لهم في بغداد، من ضمنهم الدكتور إياد علاوي، يعرضون فيها تجميد نتائج الاستفتاء لمدة عام أو عامين، وهو الاقتراح الذي تقول المصادر، إن بغداد رفضته رفضاً مطلقاً، إن صحت الأنباء بشأنه، سبق وأن قدّم للبرزاني على طبق من فضة، ومن قبل الموفد الأميركي، ورفضه رفضاً تاماً، قبل الاستفتاء بأسبوع واحد على أقل تقدير.

وفي الأنباء أيضاً، أن القيادة الكردية بدأت تتحدث عن الاستفتاء بوصفه تصويتاً على «حق تقرير المصير، وليس ترسيماً للحدود»، مع أن فكرة إجراء الاستفتاء في محافظات الإقليم الثلاثة (أربيل، السليمانية ودهوك) وتفادي إجرائه في المناطق المتنازع عليها، سبق وأن عرضت على رئيس الإقليم، ومن قبل موفد واشنطن ذاته، لكن البرزاني رفضه بشدة، وأصر على

«حدود الدم» التي تفصل الإقليم عن بقية العراق، انسجاماً مع مواقف سابقة صدرت عنه اعتبر فيها أن حدود الإقليم تنتهي حيث يتوقف تقدم قوات «البيشمركة» وأن المادة 140 قد أنجزت ولا عودة لها أبداً. إنه نفس المبدأ الإسرائيلي الذي لم يقر بعد سبعين سنة على إنشاء الكيان حدود «إسرائيل».

لو أن قدراً من العقلانية قد هيمن على عملية صنع القرار في أربيل، وجرى تغليب المصلحة العامة، الكردية والعراقية، على المصالح الشخصية والعائلية والحزبية عند اتخاذ القرار بالاستفتاء، والإصرار عليه، بالضد من آراء ونصائح وضغوط مختلف الأطراف العراقية والإقليمية والدولية (باستثناء إسرائيل) لقد حصلت أربيل على عروض أفضل بكثير مما تعرضه هي اليوم، ومع ذلك رفضتها جميعها، واليوم تسعى في إدراك ما يمكن تداركه.

أميركا مارست سياسة اللعب على النار نفسها وليس بالنار، فهي لم تتخذ موقفاً رافضاً للاستفتاء الكردي قبل إجرائه ثم أعلنت رفض الاستفتاء بعد إجرائه على لسان وزير الخارجية ريكس تيلرسون، ثم عادت وعلى لسان مسؤول آخر بالتراجع عن التراجع والقول إنها أخطأت بعدم الاعتراف بنتائج الاستفتاء. أما إسرائيل فإنها لا تجد حرجاً في التضحية بدماء الأكراد، ومن سيصارعونهم.

فإذا كان الانفصال، فقد تحقق الحلم الذي فكروا فيه منذ عقود ضمن يما عُرف بنظرية «شد الأطراف»، أي إنشاء كيانات هشة من حولهم تجعلهم القوى الوحيدة المتماسكة التي يخطب الجميع ودها، ولم يجد ساسة إسرائيل أخيراً أدنى حرج، في الحديث عن إعادة النظر في تقسيمات سايكس بيكو، على اعتبار أنها ليست كافية لتحقيق المطلوب، وهم الآن يعوّلون على تحقيق أهدافهم بعد الصراع الراهن، أو في ظله.

فالأزمة الكردية تجر كل دول المنطقة إلى حريق ما بعد "داعش"، وقد يشتعل عشر سنوات أخرى تكون خلالها الصهيونية قد حققت مرحلة متقدمة من مشروعها ضد الأمة العربية.

 

 

Email