من يزرع الشوك لا يجني العنب

ت + ت - الحجم الطبيعي

«الفقراء والعاملون في هذا البلد، يتم إرسالهم ليقتلوا الفقراء والعاملين في بلد آخر.

وبدون العنصرية، سيعرف الجنود أن لديهم أشياء مشتركة مع المواطنين العراقيين، أكثر مما لديهم مع المليارديرات الذين أرسلونا للحرب.

نحن بحاجة لأن نستيقظ، ونعرف أن أعداءنا الحقيقيين ليسوا في بلاد بعيدة.

هم ليسوا أناساً لا نعرف أسماءهم ولا نفهم ثقافتهم. الأعداء هم أناس نعرفهم جيداً، ونستطيع تحديدهم. العدو هو النظام الذي يخوض الحروب عندما تكون الحرب مربحة، العدو هم مديرو الشركات الذين فصلونا من أعمالنا عندما كان ذلك مربحاً لهم، هم شركات التأمين التي تحرمنا من الرعاية الصحية عندما يكون ذلك مربحاً لهم، هم البنوك التي تسلب منا بيوتنا عندما يكون ذلك مربحاً لهم.

أعداؤنا ليسوا على بعد 5 آلاف ميل، بل هم هنا في الوطن. إذا نظمنا أنفسنا وقاتلنا مع أخواتنا وإخواننا، سنتمكن من إيقاف هذه الحروب».

بهذه الكلمات، أنهى الجندي الأميركي السابق «مايك برايزنر»، شهادته حول مشاركته في الحرب الأميركية على العراق، حيث كان أحد جنود اللواء المحمول جواً المنتشر في شمالي العراق. وهي شهادة تكشف في تفاصيلها الغطاء عن الممارسات العنصرية التي تعرض لها مدنيون عراقيون أبرياء، بحجة محاربة الإرهاب، وهو ما علق عليه «برايزنر» قائلاً: «لقد أخبرونا بأننا نحارب الإرهابيين، ولكن الإرهابي الحقيقي هو أنا، وهو هذا الاحتلال».

وذكر الألفاظ التي كان يطلقها رؤساؤه على العراقيين، والتي تنم عن العنصرية العالية، التي كانوا يتعاملون بها مع أبناء الشعب العراقي، والأساليب التي كانوا يستخدمونها في التحقيقيات التي كانوا يجرونها معهم.

شهادة «مايك برايزنر» ليست الأولى من نوعها، ولن تكون الأخيرة.

وهي ربما تكون صحوة ضمير، صحيح أنها متأخرة، لكنها تلقي الضوء على خلفيات ما يجري من حروب في العالم، وتكشف لتلك الشعوب، التي ترسل حكوماتها الجيوش إلى مناطق العالم المختلفة، من هو المستفيد الحقيقي من تلك الحروب والصراعات التي تشعلها حكومات الدول الكبرى في بعض دول العالم الغنية غالباً، ومن هو المتضرر.

كما أنها شهادات تكتسب أهميتها من كونها صادرة عن جنود شاركوا في هذه الحروب، وكانوا هم الطرف المعتدِي، لا المعتدَى عليه.

في مقدم كتابه «لماذا يكرهوننا»، الصادر في طبعته الأولى عام 2004 م، يذكر الكاتب والمفكر السعودي ناصر بن محمد الزمل، أنه بعد الحادي عشر من سبتمبر 2001 م، قامت الصحافة الأميركية، وخصوصاً «وول ستريت جورنال»، باستقصاء للرأي في منطقة الشرق الأوسط، وحاولت أن تجد إجابة للسؤال، الذي وصفه الكاتب بالساذج، للرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش: «لماذا يكرهوننا.. مع أننا طيبون؟»، وركزت الصحيفة في مسحها على آراء أناس من مختلف الفئات في المنطقة العربية، فجاءت إجاباتهم متشابهة، وهي الإجابات نفسها التي سنحصل عليها لو طرحنا هذا السؤال اليوم.

وهنا نتذكر «زينو بريجينسكي» مستشار الرئيس الأميركي الأسبق «جيمي كارتر» للأمن القومي، الذي أشار في كتابه «الفوضى»، إلى مدى التناقض الذي يميز نظرة العالم للولايات المتحدة الأميركية، ونظرة الأميركيين أنفسهم لبلدهم، حيث يقول: «إن العالم قد أصيب بعدوى القيم والصور التي يفرضها الإعلام الأميركي عليه، وهو ما يسمى بالإمبريالية الثقافية، فهل حقاً تستحق الولايات المتحدة أن تكون مصدراً للقيم في العالم، حتى وإن حازت على مفاتيح القوة الاقتصادية والعسكرية؟».

ليس هذا موقفاً منا تجاه الولايات المتحدة الأميركية، ولا هو تحريض عليها لأخذ موقف منها، وإنما هو استقصاء وتحليل لما يحدث في كل العصور.

وما ينطبق على الولايات المتحدة الأميركية، ينطبق على كل القوى الكبرى الأخرى، فليست الولايات المتحدة الأميركية هي الشيطان الأوحد، وغيرها هو الملاك الأبيض، لأن لغة المصالح تفرض نفسها على هذه الدول، وهي ليست مصالح الدول فقط، وإنما مصالح كبار السياسيين والمتنفذين ورجال الأعمال ومصانع الأسلحة وغيرها.

تتساوى في هذا دول الشرق والغرب، ولا تفرّق بينها سوى الشعارات التي ترفعها كل دولة، والأسباب التي تسوقها للتدخل في الدول الضعيفة والمغلوبة على أمرها، سواء كان هذا التدخل رغماً عن حكومات هذا الدول، مثلما فعلت الولايات المتحدة الأميركية في العراق عام 2003 م، أو بطلب من حكومات هذه الدول، مثلما تفعل روسيا وإيران اليوم في سوريا، ومثلما فعلت قوى وممالك ودول كثيرة عبر العصور السابقة كلها، كأنما تاريخ البشرية سلسلة من الأطماع والتدخلات، للوصول إلى ثروات الشعوب وخيراتها، واحتلال أراضيها واستباحتها، للاستيلاء عليها واستنزافها.

كل هؤلاء يزرعون الشوك، ومن يزرع الشوك لا يجني العنب، كما يقول المثل، لذلك، على هؤلاء الذين يتوقعون أن تسكت هذه الشعوب عن حقها، ألا يخلدوا إلى مضاجعهم قريري العين هانئي البال، فالشوك لن يطرح عنباً بالتأكيد، والذين أدمت أيديهم الأشواك، سوف يدمون قلوب من تسبب في أذاهم. هذا هو منطق الأشياء الذي لا يعترف به المعتدون، أو يتجاهلونه عن عمد أو جهل أو غباء.

وعندما يعترف أحد أولئك الذين شاركوا في مثل هذه الجرائم، مثلما فعل الجندي الأميركي السابق مايك برايزنر، فإن هذا ربما لا يغير من الأمر شيئاً، لكنه يرمي حجراً في المياه الراكدة، علّه يحرك الضمائر النائمة، فتستفيق على صرخات النساء والأطفال والشيوخ والعجائز، الذين تُنتَهك حرمةُ أوطانهم، وتُسحق كرامتُهم، وتُستنزَف خيراتُ بلدانهم، دون أن يستطيعوا نزع أو اتقاء الأشواك التي يزرعها هؤلاء الطغاة المعتدون.

Email