في حضرة الثورة الرابعة

ت + ت - الحجم الطبيعي

هناك ثورات تقلب العالم رأساً على عقب، ولكنها تغير حياة الإنسان إلى الأفضل. ومنذ ثلاثة عقود نشر لي مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت كتاب «العرب ومستقبل النظام العالمي».

وفيه بدأت الحديث عن «الثورة العلمية التكنولوجية الثالثة» وتأثيراتها على تشكيل القوى وتوازناتها في العالم. في ذلك الوقت، الثمانينيات من القرن الماضي، كان التطور في هذه القوى هو الذي وضع الأساس المادي لزوال الاتحاد السوفييتي. لم يكن أكبر النظم «الاشتراكية» في التاريخ جاهزاً لهذه الثورة رغم قيامه بغزو الفضاء وامتلاكه لواحدة من أكبر الآلات العسكرية في التاريخ.

هذه قصة أخرى على أية حال، أما الثورة الرابعة فحالها كما كان في الثورات الثلاث السابقة هو إحداث تحولات عميقة في الحياة البشرية. انظر في التاريخ وسوف تجد الثورة الأولى قامت على المياه وطاقة البخار المتولد عنها وقامت بميكنة عملية الإنتاج بعد أن كانت تعتمد على القوة العضلية للإنسان.

الثورة الثانية قامت على الطاقة الكهربائية التي فتحت الباب للإنتاج الواسع والجماهيري، باختصار فتحت الأسواق لكل البشر لاستهلاك ما كان يستهلكه الصفوة. الثورة الثالثة قامت على الإلكترونيات وتكنولوجيا المعلومات. الثورة الرابعة، وهناك من يعتبرها امتداداً للثورة الثالثة.

ولكن من لا يعتبرونها كذلك يرونها تداخلاً بين المجالات المادية والرقمية والبيولوجية. هي النتيجة الطبيعية للثورة في الذكاء الصناعي، والروبوتات، والنانوتكنولوجي، والبايوتكنولوجي، وعلوم المواد، واختزان الطاقة، وعمليات الحساب الهائلة (الكوانتم).

منذ وصلت إلى الولايات المتحدة كانت حقائق هذه الثورة تطارد «تويتات» دونالد ترامب وما تولده من أزمات سياسية. ودون الدخول في كثير من التفاصيل فإن منتجات الثورة الرابعة ظاهرة في السيارات من دون سائق، وطائرات «الدرون» التي هي الأخرى من دون طيار؛ مثل هذا ليس تطوراً علمياً وتكنولوجياً فقط، وإنما اجتماعياً واقتصادياً كذلك.

حتى عام ١٩٦٠ كانت شركات الحديد والصلب هي عنوان القوة والسيطرة الاقتصادية والسياسية، وحتى عام ١٩٨٠ كانت شركات السيارات ومعها شركات البترول تتصدر طائفة الخمسمائة شركة في العالم، وحتى نهاية القرن العشرين كانت شركات مايكروسوفت وآبل وسامسونج هي المتصدرة للسباق. الآن فإن هذه الأخيرة لم تعد وحدها المتصدرة في الأسواق بل أصبحت أمازون وجوجل وفيسبوك هي الصاعدة والقادرة على إنتاج وتسويق وتوزيع شبكات هائلة من المنتجات.

من المهم أن نعلم أن العالم القديم لا ينتهي فجأة، وعندما بات واقعاً أن تكنولوجيا السيارات الحديثة أصبحت تقوم أولاً على الكهرباء، وثانياً على انتهاء القيادة الإنسانية للسيارة؛ فإن ذلك لم يكن يعني إقبال الناس على شراء هذه السيارات. في كاليفورنيا ظهر أن التشريعات القائمة لا تتناسب مع سيارة من دون قائد، فلا بد أن يكون هناك من يتحمل المسؤولية في حالة التصادم.

في الأسبوع الماضي خرجت شركة آبل على الدنيا بمنتجاتها عن العام الحالي. كان الظن أن الشركة الشهيرة سوف تفقد جزءاً من سحرها بعد وفاة مؤسسها ستيفن جوبز. ولكن الرجل كان من الذين لا يموتون أبداً لأنه خلق مجتمعاً كبيراً بامتداد الكرة الأرضية قادراً على التجدد والإبداع والابتكار.

جزء من هذه العملية تدريب المستهلك على التغيير السريع نسبياً للمنتجات عما كان عليه الحال في السابق، فهي لا تكف عن تقديم تحسينات على المنتجات الموجودة بالفعل؛ ولكن الأهم أن ذلك لا يمنعها من الاستعداد لطرح منتجات جديدة لا تعطي منتجاً ما وإنما أسلوب حياة مختلف.

ساعة أبل على سبيل المثال لم تعد أداة لقياس الزمن فقط، ومتابعة توقيتات الحياة، هي أداة تواصل مع بشر آخرين، ومع المعلومات، ومع قياس حركة الجسم الإنساني. هي اتصال مستمر مع عقل صاحبها. وبعيداً عن تفاصيل الآي فون الجديد المسمى إكس X فإن الحقيقة هي خلق امتدادات جديدة للعقل البشري والتواصل الإنساني سواء أكان ذلك للغرام أو التآمر أو إدارة شركات كبيرة.

في خلال التسعينيات من القرن الماضي نادى الصديق الدكتور محمد السيد سعيد، رحمه الله، بأن تندرج مصر فوراً في الثورة الصناعية الثالثة لأن بقاء التركيز على الثورة الثانية لا يعني إلا استمرار التخلف عن بقية العالم. اليوم فإن الرئيس السيسي مطالب بتشكيل لجنة قومية تدرس وتفتح الباب للكيفية التي لا تجعلنا نتخلف مرة أخرى عن ثورة تكنولوجية رابعة تولد الآن!

 

Email