جدل التاريخ

ت + ت - الحجم الطبيعي

وهبت الطبيعة للإنسان مفهوم النظام، فهو في رؤيته المستمرة للترتيب القائم في الطبيعة، ولعاداتها المتكررة، ظن أن للطبيعة نظاماً خاصاً، وحتى الشذوذ في مسار الحوادث الطبيعية، هو جزء من النظام، كالزلزال وفيضان النهر والإعصار وما شابه ذلك.

ولقد حاولت البشرية عبر تاريخها الطويل، أن تنتج نظاماً دائماً يشبه نظام الطبيعة، ولكنها لم تنجح في محاولتها هذه. البشر يفكرون، ولهم إرادة ومصالح وأهواء وأوهام ورغبات وعنف وصراع من أجل البقاء.. وهكذا. لكن المجتمعات نجحت أخيراً في صياغة نظام سياسي مجتمعي، يقوم على فكرة الحق والعقد الاجتماعي الضامن للحق.

والتاريخ عبر مساره الطويل، قد حمل المفكر فيه أن يكشف فيه ملامح قانونية ما، ورصد احتمالات مسار التاريخ بناءً على التجربة التاريخية. ولكن أحداً من العقول لا يستطيع أن يتوقع المصادفات التاريخية. أما هذا الذي كشفه المفكر من سيرورة المجتمعات قد سماه عقل التاريخ.

فلقد كشف ابن خلدون مبكراً عن الدوال التاريخي، بل إن مفهوم الدولة قد اشتقته العرب من كلمة دوال، والدوال هو تغير الأحوال. وقديماً قال الشاعر أبو البقاء

هي الأمور كما شاهدتها دول من سره زمن ساءته أزمان

لم تعد فكرة عمر الدولة وعمر عصبيتها ومدة استمرارها، صالحة لفهم الدولة الديمقراطية المعاصرة، لكنها صالحة لفهم الدولة التي تقوم على عصبيات ضيقة. فالأصل في الدولة الآن، هو تطابق الدولة والمجتمع، وتعبير سلطة الدولة عن مصالح الكل المجتمعي، فالعصبيات الدينية والأيديولوجية وما شابه ذلك، لم تعد عصبيات قادرة على إنتاج الدول إلا في الظاهر.

لا يمكن النظر إلى التاريخ بوصفه حركة عفوية فحسب، إنه ثمرة أفكار في الرأس أيضاً، أفكار تطرح ما يجب أن يكون عليه العالم، وتبرز التراجيديا التاريخية، حين يكون هناك أفكار في الرأس تلعب دور المشنقة لإعناق الإمكانات، وللحيلولة دون ولادتها في الواقع، أو حين تكون أفكار رأس ٍ خالٍ من جدل الإمكانية والواقع والإرادة. ولكن هناك فرق بين تراجيديا تاريخية تحقق في الواقع ما كان في رحم التاريخ، وهي التراجيديا الحقيقية، وتراجيديا الحمل الكاذب، الذي تكون ضحيته الإرادة.

يضاف إلى هذين النمطين من التراجيديا، وهم الإرادة الحمقاء، التي تعتقد بأنها قد تكون سداً أبدياً أمام مجرى التاريخ، وبخاصة حين يكون المجرى في حال الطوفان. إن الخراب الذي تولده الإرادة الحمقاء، قد يفضي إلى نمط من الانحطاط الكلي، إذا ما كانت تمتلك فضلات قوة متبقية من إرث عنفها الطويل في قتل أجنة التاريخ.

والإرادة الحمقاء نمط من الاغتراب الجماعي التخريبي، الاغتراب الذي يزين لهذه الإرادة تجميد العالم عبر القوة، في الوقت الذي لا تكون مهمة القوة هذه سوى تأخير انفجار الحياة.

إن القوى العنفية المتأسلمة، التي ألبست مصالحها رداءً دينياً، مهما كان هذا الرداء، عبر حركات وأحزاب متعصبة قوى نافية للآخر، نافية لمبدأ الدولة الوطنية، وظاهرة معادية للعصر وللشعب، لا سيما أنها قد استنت كل الطرق اللا أخلاقية لإخافته.

وإن أي دولة أو جهة تدعم هذا الوحش، لا تدري أن الوحش الذي تدعمه سيكون في المستقبل القريب أو البعيد خطراً عليها، لأنها قوة مناقضة لمجرى التاريخ الذي تحدثنا عنه ومنطقه. وإنه لمن الدهشة بمكان، أن تقوم دولة ما بتأييد ودعم حركات إرهابية، هي بالأصل ضد منطق الدولة، وضد منطق الولاء والانتماء للوطن.

 

Email