من حافة الهاوية لتبادل الإهانات

ت + ت - الحجم الطبيعي

اللغة النارية التي استخدمها الرئيس الأميركي بخصوص كوريا الشمالية فى خطابه أمام الأمم المتحدة ثم الرد الكوري عليها بلغة مماثلة رفع التوتر وجعله يختلف نوعياً عن الممارسة التقليدية لاستراتيجية "حافة الهاوية" التي تميل لها كوريا الشمالية، واتضح أن دونالد ترامب يميل لممارستها هو الآخر.

فقد اعتاد العالم من كوريا الشمالية أن تلجأ لاستراتيجية حافة الهاوية فى علاقتها مع الولايات المتحدة. لكن العالم شهد أيضا خوض كوريا الشمالية مفاوضات مع الولايات المتحدة مرتين على الأقل. كانت المرة الأولى فى عهد بيل كلينتون والتي تم فيها التوصل لاتفاق إطاري كان من شأنه، إذا ما تم استئناف التفاوض حوله قبل ترك كلينتون الحكم، تجميد تطوير كوريا الشمالية لصواريخها طويلة المدى.

لكن الولايات المتحدة انشغلت عن بيونغ يانغ بقضايا أخرى فى ذلك الوقت وانهار الاتفاق من الجانبين. ثم وصل بوش الابن للبيت الأبيض ورفض المفاوضات المباشرة فتم اللجوء لما عرف "بالمحادثات السداسية" التي كان من الممكن أن تتوقف معها كوريا الشمالية عن إنتاج البلوتونيوم لولا خرق الاتفاق من جانب كوريا الشمالية والولايات المتحدة.

أما أوباما، فلم تسع إدارته مطلقا لأية مفاوضات ثنائية ولا متعددة الأطراف مع بيونغ يانغ وإنما اتبعت ما أطلق عليه وقتها سياسة "الصبر الاستراتيجى". ثم توفي زعيم كوريا الشمالية فى نهاية عام 2011 ليتولى كيم جونج أون الحكم خلفا لوالده.

ورغم أن سياساته تعتبر امتداداً لسياسة الأب من جوانب عدة، إلا أن بعض التغير قد طرأ على موقف بيونغ يانغ. فلعل أهم أوجه الاستمرارية هي تبني الابن مثل أبيه استراتيجية حافة الهاوية التي يلجأ لها بين الحين والآخر.

لكن كيم جونج أون لا يبدو مستعداً على الإطلاق للتفاوض بشأن نزع سلاح بلاده النووي، وإنما أكثر عزما على تطويره. كما يبدو الرجل أقل تأثرا، من والده الراحل، بالنفوذ الصيني. ورغم أن نظام كوريا الشمالية من أكثر النظم سرية وتعتيما فى العالم.

إلا أن التقارير الموثوقة تشير كلها إلى أن البرنامج النووي بالنسبة لكوريا الشمالية هدفه الرئيسي ليس فقط تأمين النظام من أي محاولة للقضاء عليه وإنما دفع العالم للاعتراف بكوريا الشمالية كفاعل إقليمي ودفع الولايات المتحدة للتفاوض معها للتوصل لاتفاق يرفع العقوبات ويحل محل اتفاق وقف إطلاق النار الذي تم إبرامه لإنهاء الحرب الكورية عام 1953.

غير أن المعادلة التي شهدت بعض التغير بوصول كيم غونج أون للحكم طرأ عليها متغير إضافي بوصول دونالد ترامب لمنصب الرئاسة فى الولايات المتحدة. فمستوى التوتر فى شبه الجزيرة الكورية ارتفع للغاية فى الشهور الثمانية منذ وصول ترامب للحكم. صحيح أن كوريا الشمالية اعتادت اختبار كل رئيس أميركي بمجرد وصوله لسدة الحكم عبر تكتيكات استفزازية إلا أن الجديد هذه المرة هو طبيعة شخصية الرئيس الأميركي الجديد نفسه، والذي يبدو أنه هو الآخر يميل لاستراتيجية حافة الهاوية تلك.

ومنذ أسابيع قليلة حين رفع ترامب حدة التوتر بتهديدات نارية عبر حسابه على تويتر، ردت كوريا الشمالية بالتهديد باستهداف جزيرة غوام، فوجد العالم نفسه أمام آفاق مواجهة نووية. وهو ما اضطر معه وزيرا الدفاع والخارجية الأميركيان لكتابة مقال مشترك نشرته صحيفة الوول ستريت جورنال كانت أهم عباراته أن "الولايات المتحدة ليس لها مصلحة فى تغيير النظام أو الإسراع بتوحيد الكوريتين".

وهو ما أدى لتراجع كوريا الشمالية عن تهديداتها. لكن سرعان ما عادت الحرب اللفظية من جديد فى خطاب ترامب أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة والذي لم يهدد فيه فقط "بالتدمير الكامل" لكوريا الشمالية وإنما وجه إهانات شخصية للرئيس الكوري، فما كان من كوريا الشمالية إلا أن هددت بتفجير قنبلة هيدروجينية بالمحيط الهادي، فضلا عن قائمة من الإهانات شخصية وجهها الرئيس الكوري للرئيس الأميركي.

وكان لافتا فى هذا السياق أن إدارة ترامب التي طالما استخدمت تعبير "كل الخيارات متاحة"، أي بما فيها العسكري، خرجت على لسان مستشار الأمن القومى الأميركي لتقول أنه "يوجد الخيار العسكري" للتعامل مع بيونغ يانغ، أي لتميز خيار الحرب على ما عداه.

وكلمات مستشار الأمن القومى الأميركي تصبح بالغة الخطورة لأن استراتيجية حافة الهاوية تم استبدالها بما يبدو جديداً فى العلاقات الدولية ويمكن أن نطلق عليه استراتيجية تبادل الإهانات، إذا كان يجوز أصلاً أن نسمي تلك "استراتيجية"!

فهو سلوك يقوض كل آفاق الدبلوماسية ومن ثم لا يؤدي إلا جر العالم نحو مواجهة نووية. ففي عالم الدبلوماسية، يسعى كل طرف إلى إفساح المجال للطرف الآخر لأن يتزحزح عن موقفه مع حفظ ماء وجهه، وهو ما يستحيل حدوثه فى حالة تبادل الزعماء الإهانات الشخصية.

 

Email