علماء.. ولكن!!

ت + ت - الحجم الطبيعي

قال الله تعالى في محكم التنزيل {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}. [فاطر:28]، وجاء في تفسير وبيان من هم «العلماء» بأنهم الذين يعلمون أن الله على كل شيء قدير، ولم يشركوا بالله شيئاً ويخشون ربهم بالغيب، وجاء أيضاً في تفسير قوله تعالى {رْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11] أن الله سبحانه وتعالى يرفع الذين أوتوا العلم من أهل الإيمان على المؤمنين، الذين لم يؤتوا العلم بفضل علمهم درجات، إذا عملوا بما أمروا به.

ويتبين من هذا بأن العلم قيمة أساسية اعتمدها القرآن للترجيح بين البشر، ولكن جميع هذه الآيات وما ورد في تفاسيرها لم يعرفنا تعريفاً صريحاً من هم العلماء الذين أوتوا العلم غير أنهم من علموا قدرة الله فخشوه في جهرهم وسرهم، فهل المقصود بالعلماء هم فقط العالمون بأمور الدين من علماء الفقه والسنة والتفسير؟

وما أذكره تماماً أنه نعم، هذا هو تفسير معنى العلماء إلى وقت قريب كان يخطب به أئمة المساجد ويكررونه في دروسهم ومحاضراتهم، أن العلم هو العلم الشرعي ودونه علوم دنيوية لا يمت أصاحبها إلى العلماء بشيء، فهل مازال هذا المفهوم متواجداً بيننا وفي خلجات أنفس بعضنا أنه حقيقة قد زال.

لماذا لم تأتِ الإشارة في تفاسير القرآن لبيان من هم العلماء ليشمل أولئك العلماء المختصين بعلوم غير الدينية كعلماء الفضاء والرياضيات والفيزياء والأحياء وغيرها من العلوم البشرية؟ فهل لم يشمل هؤلاء المكانة المرموقة التي خصها الله للعلماء وأولي العلم من الناس؟ أم أن هؤلاء أيضاً لا يخشون الله في السر والعلانية؟

فلهذا لم يرد ذكرهم في تفاسير الكتاب الحكيم؟ وهل حقيقة أن من اشتغل بالعلوم الدنيوية قد نال أجره وثوابه دنيوياً أي نال من المال والشهرة ما يغنيه عن نيل شرف العلم الأخروي، وهذا القول ليس مني ولكنه قاله كبار المفسرين القدماء منهم والمعاصرون، وهذا يدعونا إلى التساؤل أيضاً ألم يأخذ مشايخنا ووعاظنا من المفسرين نصيباً من المال والشهرة والإرث المتوارث من سيرتهم ما يغنيهم أيضاً عن نيل شرف الجائزة الأخروية؟

ولو أخذنا علماء الفضاء كمثال نطبق عليه فرضيتنا وتفكرنا قليلاً؛ فسنجد بأن علومهم التي يكتشفونها من تدابير الله في تسيير الأرض والكواكب وبهذه الدقة المتناهية ستجعلهم هم أكثر الناس خشية لله، فعلومهم تؤكد أن هذا العمل لا يمكن أن يكون من صنع البشر إنما من صنع إله قادر على كل شيء.

فإذاً علماء الفضاء أيضاً يشملهم تفسير العلماء الذي ورد في [سورة فاطر]، وهكذا بقية العلوم من طب وهندسة وخلافها التي إن بحثنا في تفاصيلها فسنجد بأنها منظومة متكاملة مدروسة ومنظمة بشكل كامل وتُبين عظمة الخالق في خلقه.

وعلى الرغم من هذه التوضيحات إلا أن المفسرين للقرآن والدعاة ممن ينقلون هذه التفاسير إلى العامة من الناس يحتكرون لأنفسهم صفة العلماء، وينصبون أنفسهم بأنهم هم علماء الدرجة الأولى فهم بعلمهم الديني يعلمون الفيزياء والرياضيات والفلك وغيرها من العلوم أجمع.

وهذا الأمر لا يمكن تصديقه، فكلما تخصص الإنسان في علم دقيق زاد عطاؤه وسخر مجهوده ليكتشف اكتشافات جديدة، أما أن تبقى أمتنا ترى أن العلماء هم وحدهم علماء الدين فقد جعلنا نتخلف في حضارتنا وعلومنا عن بقية الأمم.

البشرية لا يمكنها أن ترتقي بعلم واحد وأوحد، بل تحتاج إلى توظيف طاقاتها وطاقات شبابها من أجل اكتشاف علوم أخرى، والاحتكار العلمي الذي يراه علماء الدين في أنفسهم هو سبب بطء الحركة العلمية التي ننشدها في أمتنا الإسلامية، وهذه الحالة المستعصية التي علينا أن نُخّلص المجتمع ورواد العلم منها تحتاج إلى بذل المزيد من الجهود لإعادة تفسير ما أورده الله في كتابه تفسيراً دنيوياً علمياً.

فضلاً عن أن العلم هو الاكتشاف الجديد والمستحدث الذي تقشعر له الأبدان كما قال الله عز وجل، أما علماء الدين فمعظمهم من الأصوليين الناقلين الحافظين وليسوا من المكتشفين أو المجددين أو المستخلصين لعلوم حديثة يعجز أو يقف الإنسان أمامها إجلالاً.

لذلك قد حان الوقت للبحث في علوم الدنيا، وتسخير عقولنا التي ميزنا الله بها، وذلك بالتدبر في القرآن الكريم وفهم معانيه، وأيضاً التدبر في خلقه وكونه لقوله: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} [محمد:24]، ومن هنا تأتي مسؤولية علماء المسلمين العالمين في أمور الدنيا جميعها أن يتدخلوا في أمور أمتهم ويبنوا نهضتها وقوام رقيها، فالله سبحانه وتعالى رفعهم درجات، ومكنهم من علومه، وعليهم أن يستشعروا بهذه المسؤولية الموكلة إليهم من أجل رفعة المجتمع ورقي الأمة الإسلامية.

العالِم هو من يسعى باستخدام علمه ونتاج عقله إلى أن يُحدث فرقاً في حياة البشرية، وهو من يُسخر عمره ويفنيه في خدمة علمه وعلومه والتي يعتبرها رسالته ودوره في هذه الحياة، ولا يقتصر دور العلماء على الأحكام الشرعية.

فالله تعالى ذكر الكثير من العلوم في القرآن الكريم منها الطبية ومنها الفلكية ومنها الإنسانية وعلوم الاجتماع، والنظر للقرآن الكريم على أنه تفسير شرعي لحلال الله وحرامه لهو قصور في النظر من الواجب تصحيحه لنرتقي بعلومنا التي أورد الله مفاتيحها في كتبه وقص الكثير منها في سير رسله، ومهمتنا استكمالها وتجميعها وبيانها وتحديثها لتواكب ما وصلت إليه الأمم التي سبقتنا. والله من وراء القصد.

 

 

Email