حقوق الأوطان وحقوق الإنسان

ت + ت - الحجم الطبيعي

ستظل هذه القضية موضع التباس شديد ومحل خلافات مستمرة على الصعيد العالمي، جراء عدم التوصل لحدود فاصلة بين تحديد المفاهيم والأولويات، وكذلك لهيمنة الأهواء السياسية على الشخصيات المسؤولة والمنظمات والهيئات الدولية والعالمية عند التقييم وإصدار التقارير النهائية بشأن حقوق الإنسان.

بالتأكيد، ليست تلك المرة الأولى التي تطرح فيها تلك القضية الشائكة، قضية العلاقة بين حقوق الإنسان وحقوق الأوطان، والشعيرات الرفيعة بينهما، وأغلب الظن أن تناول القضية ذاتها لن يتوقف حتى يستقر المجتمع الدولي على مواثيق وقوانين وقيم ومفاهيم سياسية وإنسانية أكثر تطوراً، تحفظ للإنسان حقوقه، وللأوطان سلامتها وبقاءها.

وحتى يتم التوصل إلى مثل هذا التوافق، سيظل العالم تحت ضغوط الازدواجية الواضحة في تناول قضايا حقوق الإنسان، ولعل السبب المباشر في ذلك، يتمثل أساساً في تشرذم المعايير واختلاف الرؤى، نتيجة تعدد الجهات المعنية بتقييم حقوق الإنسان في مختلف الدول والمجتمعات من جانب، والهيئات والجهات المعنية بسياسات الدول من جانب آخر.

حيث تختص بحقوق الإنسان «الفرد» منظمات، وهيئات تعمل بشكل مستقل، ووفقاً لمعايير فضفاضة ومطاطة، يمكن تطويعها لأهواء ودوافع سياسية، مع اختلاف الآراء ووجهات النظر، وكذلك منظمات المجتمع المدني، وبشكل أكثر تحديداً، ما يسمى بالمنظمات غير الحكومية «إن.جي.أو».

وليس خافياً أن تلك الأخيرة تعمل في ظل أجواء يكتنفها الغموض من كل جانب، سواء تلك المتعلقة بأسس عملها القانونية والسياسية والتنظيمية، أو تلك المتعلقة بالنواحي التمويلية، ما يجعل الكثير من تحركاتها في دائرة الشبهات، ويحولها إلى ألعوبة في أيدي قوى خفية، تسعى لتحقيق مآرب ذاتية، من خلال تفعيل اتهامات وتقارير تلك المنظمات لدول بعينها.

وقد طرحت هذه القضية الملتبسة خلال السنوات القليلة الماضية للنقاش غير مرة، من خلال مؤتمرات شاملة وندوات متخصصة، لبحث مفهوم لها تحت مظلة نظرية جديدة، هي «الأمن الديمقراطي»، وتعني ببساطة، كيف يمكن للدول والمجتمعات حماية أمنها الوطني في مواجهة الإرهاب والتطرف، وأيضاً الجريمة المنظمة، وفي الوقت ذاته، تحمي النهج الديمقراطي وحماية حقوق البشر، أي أن المعادلة هنا مزدوجة الأهداف الإيجابية، وعلى رأسها حماية الأمن الوطني وحق الإنسان كذلك في حياة كريمة.

فإذا ما أردنا مبرراً لطرح هذه المسألة للنقاش، أو حتى للتأمل مرة أخرى، فقد لا نجد أفضل من التطورات الأخيرة على الساحة المصرية، كنموذج واضح لموضوع النقاش، وأيضاً لحالة الازدواجية الواضحة للهيئات والمنظمات الدولية، والتي قد ترقى بعض تصرفاتها وتقاريرها إلى مستوى «المظلة» التي تشرعن الأعمال الإرهابية، أو على أقل تقدير، تمنحها المبرر الكافي للتمادي والتوسع في نشاطها الإجرامي.

في هذا السياق، كم كان لافتاً عشية وقوع عملية إرهابية في شمال سيناء، أوقعت ثمانية عشر شهيداً من رجال الشرطة، صدور تقرير من مفوض المجلس الدولي لحقوق الإنسان، يدين بعبارات قاسية جداً، ما أعتبره انتقاداً لحقوق الإنسان، وسلباً للحريات في مصر، دون أي إشارة للحرب الشرسة التي تخوضها مصر ضد الجماعات الإرهابية المهددة للعالم بأسره، وأيضاً دون أي إدانة لسقوط المئات من أبناء الشرطة والجيش بين قتيل وجريح في عمليات إرهابية، لا يختلف شخصان على تصنيفها.

حقيقة الأمر، أنه بقراءة متأنية لما جاء في تقرير المفوض الدولي لحقوق الإنسان، يمكن ببساطة شديدة، اكتشاف البصمات «الإخوانية» الواضحة في ما صدر عنه من تعبيرات، حيث انتقد مصادرة حقوق أفراد ينتمون لجماعة «الإخوان المسلمين» من العمل السياسي (!)، وفي الوقت ذاته، انتقد قرارات وإجراءات الدولة المصرية المتعلقة بالتحفظ على أموال الجماعة «المحظورة» ذاتها، وفرض الحراسة على ممتلكاتها، بينما الهدف الواضح والصريح، والذي يسعى العالم بكامله لإنجازه، هو تجفيف منابع الإرهاب، وضرب مصادر تمويله.

كانت منظمة «هيومان رايتس ووتش»، قد استبقت هذا الموقف بأيام قليلة، بإصدار تقرير مماثل، اللافت للنظر فيه، أنه لا يستند إلى أي وقائع أو أدلة رسمية أو حقيقية، وإنما مجرد «حكايات» وأقوال مرسلة متواترة من أفراد مجهولين، أو مسجلة في أحداث قديمة.

المثير في الأمر، أن مجلس الأمن الدولي، تبنى بالإجماع صبيحة العمل الإرهابي الغادر في شمال سيناء، بياناً قوياً جداً يدين الحادث بأشد العبارات، ويطالب باتخاذ كل الإجراءات الجماعية الممكنة للتصدي لمثل تلك الأعمال الإرهابية، وهنا يكمن بيت القصيد، حيث التساؤل عن كيفية توحيد التوجهات والآراء الدولية في رؤية الظروف الشاملة للدول والمجتمعات، بدلاً من سياسة توزيع الأدوار، التي تؤدي في كثير من الأحوال إلى تشتيت الجهود في محاربة الإرهاب.

بل وتهيئة مظلة لممارساته المشينة، من خلال تقارير ومواقف لمنظمات وهيئات ذات دوافع سياسية، فليس من المقبول تعريض الأوطان للخطر، باستغلال زائف وانتقائي لقضايا حقوق الإنسان، بل إن حماية الأوطان والحفاظ على سلامتها وبقائها، هو بالتأكيد أكبر حق من حقوق الإنسان.

 

 

Email