ليست أزمات أميركية فقط

ت + ت - الحجم الطبيعي

التهديدات التي تطلقها كوريا الشمالية، ضد الولايات المتحدة الأميركية، لا يمكن أن تقف عند حدود الارتدادات على نطاق محدود، فهذه التهديدات تعطل قدرة الولايات المتحدة، على التدخل في ملفات مهمة في هذا العالم، خصوصاً، مع الأولويات التي تواجهها واشنطن، على مستويات مختلفة.

حين تخضع واشنطن لهذه التهديدات بشكل أو آخر، وتدرك أن هناك دعماً صينياً وروسياً لما تفعله كوريا الشمالية، ولا تستطيع وقف تهديدات كوريا الشمالية، فعلياً، إلا باللجوء إلى مؤسسات دولية، لفرض عقوبات، أو عبر الاتصالات الدبلوماسية مع الصينيين.

وبشكل أقل مع موسكو، فإن ذات واشنطن ستواجه إعادة ترتيب أولوياتها على صعيد ملفات أخرى، سوف تتراجع أهميتها، وقدرة واشنطن على التدخل بها، أمام التحديات التي تفرضها كوريا الشمالية، والمعسكر الذي تمثله فعلياً.

كل تهديد من كوريا الشمالية، وكل تطور عسكري، مرتبط بتهديد سياسي، للولايات المتحدة، لا تحتمله واشنطن في هذا التوقيت بالذات، هذا على الرغم من أن تهديدات كوريا الشمالية، ليست جديدة، وواجهتها الإدارة الأميركية السابقة، إلا أنها اشتدت في عهد الإدارة الحالية، ومحاولات التهدئة، لا تبدو ناجحة أبداً، في ظل إدراك كوريا الشمالية، أن أزمات أميركا لا ينقصها أزمة جديدة، قد تؤدي إلى مواجهة عسكرية كبيرة ومفتوحة ومكلفة، على كل المستويات.

هذا يفسر من جهة أخرى، رفع كوريا الشمالية، لمنسوب التهديد، دون أن تتراجع للوراء، خصوصاً، أن الأدوات العسكرية، ليست إلا تعبيراً عن إعادة ترسيم سياسي، في خارطة النفوذ العالمي، ومحاولات تحجيم نفوذ الولايات المتحدة في العالم.

أكثر الأطراف المستفيدة، مما تفعله كوريا الشمالية، هي روسيا والصين وإيران، وبما أننا نهتم بشؤون المنطقة، أولاً، فإن التهديدات الكورية الشمالية، تعيد بعثرة الموقف الأميركي تجاه طهران، وتجعل الولايات المتحدة، أضعف من أن تواجه إيران في هذا التوقيت، حصراً، باعتبار أن الأولوية هي لكبح كوريا الشمالية، المسلحة بتقنيات عسكرية، غير متوفرة لإيران من جهة.

إضافة إلى حالة الاضطراب العصبي-السياسي التي تتمثل بقيادة كوريا الشمالية، والتي توحي أن لديها القدرة، على ارتكاب أي حماقة، في أي توقيت ضد الولايات المتحدة الأميركية.

كيف يمكن لواشنطن أن تتعامل مع ملفاتها المهمة، مثل الملف الإيراني، وتمدد طهران في دول عربية مثل سوريا والعراق، وتطوير الأسلحة الإيرانية، وغير ذلك من تقييمات للمشروع الإيراني، وهي تخضع أصلاً، لتهديدات من مستوى أعلى، وأكثر خطورة فعلياً على الولايات المتحدة.

كما أن أي تنازلات أميركية لكوريا الشمالية، والإقرار بتحولها إلى قوة عظمى، لن يكون إلا عبر بوابة الروس والصينيين، وهذا يعني حدوث ارتداد فعلي، لصالح المشروع الإيراني، الذي يتحالف علناً مع الروس، والصينيين ؟!

معنى الكلام، أن الظن أن أزمة الولايات المتحدة، أزمة محصورة بتحدي كوريا الشمالية لها، ظن لا يمكن أن يصمد طويلاً، إذ أن كوريا الشمالية هنا، تعبر فعلياً، عن معسكر كامل، يتشكل ضد الولايات المتحدة، تديره موسكو حصراً، بعناوين مختلفة، ودرجات متعددة، وليس غريباً أن تكون مثل هذه الأزمة البعيدة عن الشرق الأوسط، مؤثرة بالدرجة الأولى على الشرق الأوسط، لاعتبارات كثيرة.

تحجيم النفوذ الأميركي في العالم، وهو عنوان روسي، يجري بوسائل مختلفة، سواء تلك المواجهات الروسية الأميركية في مواقع عدة، أو إدارة المواجهات بالوكالة، عبر كوريا الشمالية- الولايات المتحدة، أو حتى بدخول شركاء مثل الإيرانيين، وغيرهم، والمحصلة، أن كل ما نراه يصب باتجاه واحد، أي تصعيب مهمة واشنطن في إدارة نفوذها في العالم، والحفاظ على أجنداتها وأولوياتها في كل مكان.

بهذا المعنى تكون كوريا الشمالية، أداة في مشروع كبير، وهذا المشروع تستفيد منه إيران حصراً، في هذا الإقليم، خصوصاً، أن لا أحد يوقف كوريا الشمالية، فعلياً.

ولا أحد قادر على إقناع رعاتها بالتوقف عن هذه الإدارة بشكل غير مباشر، وكل هذا يقول، إن كل صاروخ جديد تنتجه كوريا الشمالية، وكل تهديد يصاغ على ألسن السياسيين ضد الولايات المتحدة، يزيد من قوة بقية الأطراف في المعسكر الآخر، بما في ذلك إيران، وتأثيرها على المنطقة العربية، وهو تأثير يدرك الكل خطورته على مستويات عدة.

وسط هذه المعادلات، لا بد أن يجد العرب، مخرجاً سياسياً، لصون مصالحهم، وسط هذه التغيرات التي تعصف بالعالم، وتعيد إنتاج خرائط النفوذ، لأن الواضح تماماً، أن واشنطن تواجه سلسلة أزمات تتعلق بها مباشرة، وباستقرارها على خرائط النفوذ. لكن الارتداد يشمل مناطق عدة، والجانب الآخر لهذه المشكلة، أن العرب عموماً، ليس لديهم القدرة على الانفتاح على هذه المعسكرات التي تتشكل، باعتبار أن هذا الانفتاح مكلف جداً، ويعني الإقرار بخروج واشنطن من لعبة النفوذ، والتسليم لبقية القوى ومن معها، بكون مفاتيح العالم، باتت بيدها.

لكن دعونا ننتظر، خرقاً ما، قد يحدث في هذا المشهد، وهي مجرد مراهنة، على لحظة تاريخية، قد تتشكل، وقد لا تتشكل، وبدون ذلك، فإن العالم أمام حرب كبرى شاملة، أو إقرار بمثابة الهزيمة، بانتقال مركز القوة الدولية إلى معسكر جديد، وهذا إقرار ربما أسوأ بكثير، من كلفة الحرب لدى كثيرين.

 

Email