دورة ملتهبة جداً للجمعية العامة

ت + ت - الحجم الطبيعي

بعد أسابيع قليلة، أو بالأحرى بعد أيام من عمر الزمن تنطلق أعمال الدورة الجديدة للجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك، وقد تجدر الإشارة بداية إلى أن جميع دورات هذه المؤسسة الدولية لم تنعقد يوماً منذ تأسيسها عام 1945 إلا وسط ظروف دولية ملبدة بالغيوم القاتمة، وأزمات سياسية غاية في التعقيد.

فقد واكب ظهورها انطلاق الحرب الباردة بين المعسكرين الشرقي والغربي بكل تفاعلاتها وتداعياتها خاصة سباق التسلح، وكثيراً ما وجد العالم نفسه على شفا حروب كونية جديدة كان من الممكن أن تحصد الأخضر واليابس على كوكبنا الأرضي لولا عوامل كابحة لتيار الجنون السياسي والعسكري، من بينها على سبيل المثال «الحروب بالوكالة».

ولعل البدايات كانت في الحرب الكورية والحرب الفيتنامية وحروب الشرق الأوسط وحرب أفغانستان وحروب أوروبا الشرقية والانفصال في ما بعد وحروب الخليج، وسط أزمات سياسية عديدة مثل أزمة خليج الخنازير ثم أزمة الصواريخ الكوبية، وجميعها وقع في النصف الثاني من القرن الماضي، ليدخل العالم العشرية الأولى من القرن الجديد بمشاكل عميقة موروثة من العقود السابقة.

ليضاف إليها مشاكل جديدة كانت ترجمة عملية لهجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001 على واشنطن ونيويورك، وما أعقب ذلك من الحروب على الإرهاب وتغير الكثير من معالم العلاقات الدولية خاصة بعد تحولها من عالم ثنائي القطبية إلى أحادي القطبية بسقوط المعسكر الاشتراكي، وانفراد واشنطن بالهيمنة على القرار الدولي، أو هكذا تصورت.

المظاهر السابقة، مثلما سبقت الإشارة لم تجعل الجمعية العامة تعقد دورتها السنوية في أي عام من الأعوام في ظل مؤشرات حقيقية على انتشار الأمن والسلم الدوليين في ربوع العالم، برغم أن تلك المؤشرات في حد ذاتها هي الهدف الأساسي لإنشاء الأمم المتحدة وصياغة ميثاقها الشامل وما ترتب عليه من اتفاقات ومعاهدات دولية، وبرغم ذلك ليست مبالغة التأكيد على أن الدورة المقبلة تعقد وسط ظروف دولية معقدة جداً مما يرشحها لأن تكون دورة ملتهبة إلى أقصى درجة يمكن تصورها.

هناك أسباب كثيرة تدفع إلى هذا التوقع، على رأسها وجود ساكن جديد للبيت الأبيض وهو الرئيس الأميركي «المختلف» دونالد ترامب، وبالتأكيد وجود رئيس أميركي جديد في دورة للجمعية العامة ليس مبرراً في حد ذاته لتوقع دورة ملتهبة، ولكن ما يصنع الاختلاف هذه المرة هو شخصية الرئيس الأميركي ذاته وسياساته المربكة، التي خرجت عن المألوف في عهد سلفه باراك أوباما.

فالخطاب الافتتاحي المقبل سيكون أول تعارف بين ترامب والمجتمع الأممي في شكله المؤسسي، ومن المتوقع أن يضيف الرئيس الأميركي بصماته «الشعبوية» على كلمته التي قد تتحول إلى برنامج عمل يهدف إلى تغيير الكثير من الثوابت الدولية وفقاً لرؤية اليمين الأميركي الحاكم.

الظروف الدولية هي الأخرى تصب مزيداً من الزيت على نار المناقشات والأعمال المنتظرة للجمعية العامة، ولعل أخطرها على الإطلاق ما حدث في الأيام القليلة الماضية على صعيد شرق آسيا وتحديداً إعلان كوريا الشمالية عن نجاحها في إجراء تجربة تفجير قنبلة هيدروجينية يمكن حملها على صاروخ باليستي، لتغير بيونج يانج بذلك من قواعد استراتيجية في صراعها مع الولايات المتحدة تحديداً.

ولم يكن ما حدث سوى حلقة جديدة من حلقات التصعيد العسكري منذ بدايات العام الجاري بإطلاق صواريخ عابرة للأجواء اليابانية، وتهديد الرئيس الكوري الشمالي باستهداف الأراضي الأميركية بصواريخه الباليستية.

هذا التطور تحديداً يضع واشنطن في مواجهة موقف شديد الصعوبة حيث لا تملك بالفعل الكثير من الخيارات ويشعرها بعجزها عن العمل الحاسم، خاصة خارج منظومة التصرفات الدبلوماسية كالعقوبات الشاملة وتصعيد الضغوط الأمنية والدولية ووقف الاتصالات والتنسيق والحصار.

فالعمل العسكري مثلما ذكر في عديد من المرات والمناسبات هو ضرب من الجنون، ويعد أمراً مستبعداً تماماً ومرفوضاً حتى من جانب الأطراف المستاءة من تصرفات بيونج يانج وتصعيدها الدائم من خلال تطوير منظومتي الصواريخ البالستية والبرامج النووية، واليابان وكوريا الجنوبية وبالقطع الصين وروسيا ليست استثناء من ذلك.

حالة عدم الانسجام الدولي التي تبدت من خلال مواقف وتصريحات عديدة للرئيس الأميركي الجديد ستلقي بمزيد من الظلال القاتمة على أعمال الجمعية العامة في دورتها الجديدة، خاصة بعد قرار ترامب بانسحاب الولايات المتحدة من المعاهدة الدولية لحماية المناخ، في ضربة موجعة للإجماع الدولي، علاوة على مواقفه المضادة لاتفاقات سابقة مثل اتفاق تطبيع العلاقات مع كوبا.

وكذلك اتفاق «5+1» الخاص بالبرنامج النووي الإيراني والموقع في عهد سلفه أوباما، ولعبت خلاله الأمم المتحدة دوراً كبيراً حتى أمكن إبرامه.

الرئيس الأميركي إذاً سيكون محاصراً بعديد من القضايا والتساؤلات والتعقيدات الدولية، وأغلب الظن أنه لن ينجح في صياغة موقف دولي موحد يسير في ركابه، وكذلك لن تتمكن القوى الدولية من الفوز بتوافق معه نحو حل العديد من القضايا المعلقة ومن بينها أيضاً الأزمات السورية والليبية والعراقية ومشكلة الصراع العربي- الفلسطيني، ما يجعل التوقعات تصب بالفعل في خانة توقع دورة ملتهبة جداً للجمعية العامة في دورتها الجديدة.

 

 

Email