مهاجرون بلا عودة

ت + ت - الحجم الطبيعي

الذين زاروا عواصم ومدناً عالمية خلال السنوات الأخيرة، لاحظوا وجوهاً عربية كثيرة، تمتلئ بها مطاعم ومقاهي وساحات وفنادق وأسواق هذه المدن، يتحدث أصحابها لهجات مختلفة، يتضح منها أنهم ينتمون إلى بلدان عربية تشتعل على أراضيها صراعات وحروب دموية بشعة، وينتشر فيها سفك دماء وخطف وقتل على الدين والمذهب والاسم والهوية والانتماء، شبيه بما نقرأ عنه خلال العصور المظلمة من تاريخ البشرية، فيلجأ غير المقتدرين من أهل هذه البلدان إلى الدول المجاورة ليسكنوا في مخيمات تقيمها لهم منظمات إغاثة عربية ودولية، وتتكفل بتقديم الدعم والعون لساكني هذه المخيمات هيئات دولية وجمعيات خيرية عربية غالباً، على أمل أن يأتي اليوم الذي تتوصل فيه الجماعات المتصارعة إلى صيغة توقف الحروب الدائرة على تلك الأراضي، أو يأتي الحل من السماء، فتقضي هذه الجماعات والتنظيمات على بعضها، ويعود هؤلاء المهجّرون إلى بيوتهم ليستأنفوا حياتهم في أوطانهم الأصلية، وإن كان هذا الاحتمال يبدو بعيداً في ظل ما نشاهده على أرض الواقع، وهو إذا تحقق يوماً فسيأتي بواقع جديد أكثر قسوة، غير ذاك الذي كان المهاجرون يعرفونه قبل أن يغادروا بلدانهم مرغمين، ليجدوا تلك البلدان، إذا ما رجعوا إليها يوماً، لم تعد كما كانت عليه قبل أن يتركوها، كما سيجد الناس الذين سيعودون إليها، إذا تسنت لهم العودة يوماً، أنفسهم ليسوا أولئك الذين كانوا قبل أن يغادروها، فلا النفوس هي النفوس التي كانت قبل أن تشتعل الحروب، ولا الأمزجة هي الأمزجة التي كانت قبل أن يضطر أصحابها إلى ترك أوطانهم رغماً عنهم، أو بإرادتهم المنقوصة والمسلوبة والمهزومة.

الذين رأيناهم في تلك العواصم والمدن التي تعيش عصرها، واضح من وجوههم، ومن المطاعم والمقاهي التي يرتادونها، ومن مراكز التسوق التي يتبضعون منها، ومن الفنادق التي يقيمون فيها، أنهم من طبقة غير تلك الطبقة التي اضطُرّت للنزوح إلى البلدان المجاورة كي تقيم في المخيمات التي أُعدت لها على عجل، فأصبحت ملاذات آمنة سوف تطول الإقامة فيها كما هو واضح، وتغدو وطناً بديلاً للمقيمين بها، حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً، وهم كما يبدو من فئة محظوظة حظيت بلجوء إنساني من نوع ما، أو طبقة ميسورة أتاحت لها إمكاناتها المادية، أو روابطها الأسرية مع عائلات مقيمة في هذه الدول، أن تنجو من حياة المخيمات التي هي ليست الحياة التي يحلم بها أي إنسان على كل حال، باستثناء ما توفره من ملاذات آمنة للهاربين من جحيم المعارك، فجاؤوا إلى هذه الدول التي تتمتع بوضع اقتصادي جيد، يتيح للمقيمين فيها والقادمين إليها فرصاً لحياة ذات مستوى لا يتوافر في تلك الدول التي قدموا منها، وخاصة بعد موجة الثورات التي أدت إلى اندلاع الحروب والصراعات فيها، بالإضافة إلى مناخ سياسي مختلف عن ذلك المناخ السائد في بلدانهم قبل وبعد اندلاع الأحداث واشتعال المعارك، وبيئة اجتماعية مختلفة أيضاً عن تلك البيئة الاجتماعية التي كانوا يعيشون فيها، فإلى أي مدى سوف يستطيع هؤلاء المهاجرون أن يتشربوا هذه الثقافات ويوائموا أنفسهم معها، وإلى أي مدى ستؤثر هذه الثقافات في أبنائهم الذين جاؤوا معهم، وفي أولئك الذين سيولدون خارج أوطانهم الأصلية، في بلدان المهجر التي سوف تصبح جزءاً من تاريخ عائلاتهم المهاجرة، بعد أن تنقطع صلتهم بالماضي، ولا يبقى له أثر في نفوس الأجيال التي لم تعشه؟

فكرة الهجرة ليست جديدة وليست طارئة على المواطن العربي، فقد بدأت منذ أوائل القرن التاسع عشر الميلادي، عندما هاجر عدد من الشوام إلى بقاع مختلفة من العالم، بعد الأزمات الاقتصادية التي تعرضت لها بلاد الشام أثناء الحكم العثماني، وكانت الولايات المتحدة ودول أميركا الجنوبية، بالإضافة إلى مصر، هي الوجهة الأساسية لأولئك المهاجرين الأوائل المتطلعين لتحسين أوضاعهم المادية، حيث استقروا في تلك البلدان، وظل الجيل الأول منهم على اتصال بوطنه الأصلي، قبل أن تنقطع الصلة بينهم وبين تلك الأوطان بمرور الزمن، وتظهر أجيال جديدة، ذابت في تلك المجتمعات حتى أصبحت مكوناً رئيساً من مكوناتها، وحجزت لها مكاناً فيها، فتولى بعضها مراكز قيادية مهمة، من بينها رئاسة الجمهورية، مثل ميشال تامر في البرازيل، و كارلوس منعم في الأرجنتين، وأنطونيو سقا في السلفادور، وعبدالله بوكرم في الإكوادور.

كما حدثت هجرات عربية إلى بعض الدول الآسيوية، مثل أندونيسيا والهند وسيريلانكا وماليزيا، ووصلت أسماء كثيرة إلى قمة السلطة في تلك الدول أيضاً، مثل السلطان حسن البلقية في بروناي، وعبدالله أحمد بدوي في ماليزيا، ومرعي الكثيري في تيمور الشرقية. كما قدمت لنا هذه الهجرات أدباً مختلفاً أصبحنا نطلق عليه أدب المهجر، وأدباء متميزين أصبحنا نصنفهم أدباء المهجر.

حدث هذا لأن أولئك المهاجرين اندمجوا في مجتمعات البلدان التي هاجروا إليها، ثم ذابوا فيها ولم تعد أوطانهم الأصلية تمثل لديهم أكثر من ذكريات تسلل إليها التشويش في مرحلة من المراحل، بفعل تقدم أعمار أولئك المهاجرين الأوائل، قبل أن تنطمس تماماً، ولا يبقى لها أثر لدى جيل الأبناء والأحفاد الذين ولدوا في تلك البلدان، ولم يروا بلدانهم الأصلية، ولم تعد فكرة العودة إليها تخطر لهم على بال.

فهل نحن على أبواب مهجر جديد، تتكون معالمه من خلال هذه الوجوه التي تطالعنا في عواصم ومدن البلدان المختلفة التي نزورها، وإلى أي مدى سيكون هذا المهجر الجديد رحيماً بأبنائه أو قاسياً عليهم؟

*كاتب إماراتي

Email