الذهنية الموضوعية

ت + ت - الحجم الطبيعي

ماذا يعني أن يكون الإنسان موضوعياً في موقفه من العالم وأحكامه على الواقع؟

الموضوعية في التعريف هي الرأي المنزه عن الغرض والهوى. إذاً هي صفة للأحكام وليس للوقائع؛ لأن الوقائع موجودة بالأصل وجوداً مادياً، الأحكام حول الوقائع هي التي توصف بالموضوعية أو عدم الموضوعية. وإذا كنّا لا نستطيع أن نصف الأحكام الجمالية بالموضوعية فهذا لأن وعي الجمال مسألة ذاتية مرتبطة بالذوق.

غالباً ما توصف أحكامنا السياسية بأنها أحكام ذاتية تفتقد إلى الموضوعية لأنها مرتبطة بالمصالح، والانطلاق من المصلحة يفسد الموقف الموضوعي.

فالقول بأن إسرائيل دولة ديمقراطية قول لا يصدر عن علم بل عن هوى، فكيف لمحتل يسلب حقوق الناس ويسجنهم أن يكون ديمقراطياً؟ في حين أن أهم عنصر من عناصر الديمقراطية هو الاعتراف بالحق وحقوق الإنسان بمعزل عن دينه وعرقه. وبالتالي فإن الحكم بأن إسرائيل دولة احتلال عنصرية هو حكم موضوعي بامتياز. وقس على ذلك

ويزداد الأمر تعقيداً حين تصدر الأحكام على الأفراد وسلوكهم وفق مفهومي القدح والمدح، فالقدح والمدح غالباً ما يصدران عن رأي فيه هوى ومجاملة وغضب وكره... الخ.

الآن، إذا كانت الموضوعية هي الرأي المنزه عن الغرض والهوى، هل يمكن أن تتحول الموضوعية إلى ذهنية سائدة أو شبه سائدة في المجتمع؟ هل يمكن التفكير بالوقائع كلها تأسيساً على مبدأ الموضوعية؟

يجب الاعتراف أولاً أن انتصار الموضوعية بوصفها ذهنية انتصاراً مطلقاً ضرب من المستحيل، وآية ذلك أن الإنسان لا يستطيع أن يتحرر من عواطفه وانحيازاته ومصالحه تحرراً مطلقاً، ولكن من الصعب أن تكون هناك مؤسسة تنتج معرفة ما أن يكون للمعرفة وظيفة عملية وعلمية إذا لم تنتصر الموضوعية بوصفها ذهنية الفاعلين المعرفيين. ولكي تتحقق الذهنية الموضوعية مدخلاً للنظر والتأمل في مشكلات الواقع وحلولها يجب توافر ثلاثة شروط:

1- القوة الأخلاقية بالانحياز إلى مفهوم الحقيقة؛ إذ إن إنكار الحقيقة عن عمد سلوك لا أخلاقي بامتياز. فالرادع الأخلاقي يحول دون ممارسة الزيف والدفاع عنه. تقوم القوة الأخلاقية بعملية فصل بين الحقيقة والمصلحة، إذ يمكن أن تكون المعرفة الموضوعية مناقضة لمصلحتي وقد تكون موافقة لها، لكنها، أي المصلحة، لن تكون مصدر أحكامي.

2- القوة المعرفية: لا يمكن لأي ناظر ومتأمل في الوقائع أن ينجح في فهمها وتفسيرها إذا لم يتوافر على مناهج المعرفة في الموضوع الخاضع للتأمل والمراد فهمه وتفسيره. فالوصف الخارجي للوقائع لا يقدم معرفة بها أبداً.

3- قوة الحرية: فالحرية وشعور الباحث بالحرية أهم شروط تكون الذهنية الموضوعية. ذلك أن الشعور بالخوف من الموضوعية يقود غالباً إما إلى الصمت أو إلى التقية، التقية التي تبرر الظهور الزائف والرأي الخاطئ طمعاً بالأمان. بل إن ذهنية التقية هي النقيض المطلق للذهنية الموضوعية.

ولكن الذهنية الموضوعية لا تقود صاحبها دائماً إلى معرفة حقيقية، فأخطاء التفكير تصدر أحياناً عن هذه الذهنية، لكنها أخطاء ليست مقصودة، وليست صادرة عن هوىً ومعرفة، بل عن نقض في المعطيات وأدوات البحث.

ولهذا فإن صاحب الذهنية الموضوعية يعترف بأخطائه، وينقد ذاته، ويقبل النقد المعرفي لخطابه دون تأفف أو زعل.

وبعد: إن أخطر ما تواجهه مؤسسة ما منشغلة بإدارة شؤون البلاد والعباد هو مدها بمعرفة خاطئة إرضاءً لها، وهذا فضلاً عن أنه مضر عملياً، فهو سلوك لا أخلاقي، وهذا ما سيقودها إلى أخطاء في الممارسة أو إلى إغفال المشكلات الحقيقية.

هل هي دعوة لانتصار الذهنية الموضوعية في بلادنا؟ أجل.

 

Email