بيت واشنطن الزجاجي وازدواجية المعايير

ت + ت - الحجم الطبيعي

نادراً ما تتدخل الأمم المتحدة في الشؤون والتطورات الخاصة للدول عدا تلك التي تلقي بظلال قاتمة على السلم والأمن الدوليين، وهي تستند في ذلك إلى مبادئ مهمة على رأسها احترام سيادة الدول وعدم التدخل في شؤون الآخرين.

ولكن حدث في مرات عديدة على مدار السنوات الماضية - وفي الغالب تم ذلك بضغوط من القوى الكبرى ـ أن تدخلت الأمم المتحدة في صراعات أو خلافات داخلية في بعض الدول الأقل قوة أو نفوذا خاصة في قضايا حقوق الإنسان..

ومن هذا المنطلق فنحن بصدد واقعة نادرة الحدوث في تاريخ المنظمة الدولية وعلى الساحة العالمية أيضا، أن تخرج إحدى الأذرع المهمة للأمم المتحدة ببيان قوي يحمل رأياً مهماً في شأن داخلي يخص إحدى الدول الأعضاء بالمنظمة، فتلك واقعة لها دلالتها المهمة، أما أن يكون هذا العضو هو الولايات المتحدة الأميركية فهذا أمر يزيد من أهمية الحدث ويفرض مزيدا من الانتباه لأهمية الموقف والبيان والوقائع المرتبطة به.

ومع تأكيد الاحترام الكامل لسيادة الدول وشؤونها الداخلية، إلا أن لجنة إزالة التمييز العنصري التابعة للأمم المتحدة لم تتردد في الأيام القليلة الماضية في إصدار بيان رسمي يتضمن ما اعتبرته وكالات أنباء عالمية «إنذارا مبكرا» ضد ما وصف بانتشار «مظاهر الممارسات العنصرية» في الولايات المتحدة، منوهة في هذا الصدد بأحداث مدينة تشارلوتسفيل الأخيرة.

يكتسب هذا البيان أهميته كون اللجنة المصدرة له هي جزء من مكتب حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة ولها مطلق الحرية في إصدار بيانات رسمية بتحذيرات مبكرة للمساعدة على منع المشاكل القائمة من تصاعدها إلى صراعات مدنية، وكذلك الحيلولة دون تفجر نزاعات مماثلة تم نزع فتيلها في مناطق سبق تعرضها للمشكلات ذاتها، وذلك كله في سياق مراقبتها لمدى الالتزام بالمعاهدة الدولية لإزالة كل أشكال ومظاهر التمييز العنصري، وفقا لما جاء على موقع اللجنة على الشبكة العنكبوتية.

وفي إطار صلاحياتها وأسس عملها حثت اللجنة واشنطن وكبار السياسيين والمسؤولين التنفيذيين فيها على أن ينبذوا بكل ما لديهم من قوة وبدون أي تردد وبدون أي شروط وأن يدينوا كذلك ما وصفته اللجنة بـ«خطاب الكراهية التحريضي».

وقالت رئيسة اللجنة «اناستازيا كريكلي» في بيانها ذاته إنهم قد انتبهوا للمظاهر العنصرية التي انعكست في شعارات عنصرية واضحة من جانب «القوميين البيض والنازيين الجدد وجماعة كوكلوكس كلان» التي تروج للتفوق «الأبيض» وتثير مظاهر تمييز عنصري وكراهية حادة..

تجدر الإشارة إلى أن اللجنة ذاتها سبق أن أصدرت بيانات مماثلة في حق دول شهدت توترات وصدامات عنصرية أو طائفية أو عرقية مثل بوروندي ونيجيريا وساحل العاج، إلا أن واقعة إصدار مثل هذا البيان في حق واشنطن له دلالة خاصة، وقد صدر من منظمة دولية بما يحول دون الدخول في مزايدات حول المبالغة بالتهوين أو التهويل أو التجاوز في ما حدث على الأرض الأميركية.

وعطفاً على ما تقدم واستكمالاً لحديث سابق تجب الإشارة إلى أنه منذ نجاح حملة الحقوق المدنية التي نظمها المواطنون من أصل إفريقي في الولايات المتحدة ووصلوا بها إلى ذروة النجاح في عقد الستينات من القرن الماضي لإسقاط قوانين التمييز العنصري، ظلت الولايات المتحدة على مدى العقود والسنوات الماضية عرضة لعديد من الحوادث والممارسات والمظاهر العنصرية، وحتى مع وصول باراك أوباما عام 2008 إلى قمة السلطة في البيت الأبيض ليعيد كتابة التاريخ السياسي الأميركي كأول رئيس من جذور إفريقية، ولكن ذلك لم يوازه إعادة كتابة التاريخ الإنساني لبلاد العم سام..

وظلت الوقائع العنصرية تطل برأسها بين حين وآخر على مدى السنوات الماضية وكان أبرز أشكالها المعاملة القاسية من جانب رجال الشرطة الأميركيين للمواطنين ذوي الجذور الإفريقية مما أسفر عن مصرع عدد منهم وتفجر مسيرات ومظاهرات غاضبة من جموع السود في عديد من المدن الأميركية التي تابعها العالم بأكمله عن قرب ولا يمكن التشكيك فيها.

وقد حمل أوباما أملا كبيرا للأميركيين من جذور أفريقية في إنهاء الانقسام العرقي والتاريخي الذي استمر عقوداً من الزمن، وظنوا أنه جاء لاستكمال مسيرة «مارتن لوثر كينج»، أحد أهم الزعماء المدافعين عن الحرية وحقوق الإنسان ونبذ التفرقة بسبب اللون والجنس، وصاحب مقولة «نحن لا نصنع التاريخ.. بل التاريخ هو الذي يصنعنا.. الفصل العنصري جريمة محرمة بين الظلم والخلود».

هذه المشاهد وتلك الحقائق تؤكد هشاشة البيت الزجاجي الأميركي، بينما لا تتردد إدارته الحالية في التعامل بازدواجية واضحة، حيث تعاقب دولاً وحكومات بزعم انتقاصها من الحريات المدنية وعدم احترام حقوق الإنسان.

بينما العنصرية ضاربة بجذورها في مختلف قطاعات المجتمع الأميركي في أشكال متعددة تعكس انتهاكات صارخة لأبسط حقوق وكرامة الإنسان، وبيانات الإدانة من جانب الأمم المتحدة وأقرب حلفاء واشنطن خير دليل على ذلك.

 

Email