أوجاع اسرائيلية

ت + ت - الحجم الطبيعي

الأدبيات الصهيونية والإسرائيلية، المعنية برصد أوضاع إسرائيل من الداخل واستطلاع آفاقها المستقبلية، لا تكاد تتوافق على رؤية واحدة واضحة. فهي توحي بقوة أن الإسرائيليين يطالعون مسيرة دولتهم وما يعتمل في أحشائها وعلاقاتها الخارجية، بمنظورات تراوح بين مشاعر الثقة الفائضة وبين الارتباك والضبابية والتناقض، أو لنقل إن قراءاتهم للحاضر والمستقبل تنتج مزيجاً غريباً من التفاؤل والتشاؤم والتشاؤل.

بعيد أحداث برشلونة الدامية الأخيرة، خرج حاخام اليهود الرئيسي في المدينة على أبناء طائفته بنداء، يحثهم فيه على شراء عقارات في إسرائيل والمغادرة إليها عاجلاً؛ معللاً ذلك بالقول «لا أعتقد أننا سنبقى هنا للأبد، فالمكان هنا ضائع؛ أوروبا ضائعة، والخروج المبكر أفضل من وقت متأخر. سيكون الهلاك مصير اليهود في إسبانيا لأن السلطات الإسبانية لا تريد مواجهة الإسلام المتطرف».

هذا الحاخام، الذي يحمل جنسية إسبانيا ويأكل من طعامها ويشرب من مائها ويتنفس هواءها، لم يدع اليهود إلى مشاركة مواطنيهم من بقية الملل والنحل في التصدي للإرهاب ومقاومته بغض النظر عن مقترفيه. بل راح يستنفرهم ويستفزهم للهجرة إلى إسرائيل. إنها دعوة إلى الحل الهروبي ذاته؛ الذي يمثل أحد أهم ثوابت الفكرة الصهيونية منذ أطلت إلى ساعتنا الراهنة. وجوهره أن يفلت اليهود وحدهم بجلودهم، إذا ما واجهت مجتمعاتهم الأم التي يعيشون بين ظهرانيها خطراً ما.

المفارقة هنا أنه بالتزامن مع دعوة هذا الحاخام، الغاضب والخائف، أتباع ملته للمغادرة إلى إسرائيل، بحسبها وطناً وملاذاً أبدياً آمناً لهم، كان مكتب الإحصاء المركزي في هذا الوطن يعلن أن معدل الهجرة العكسية منه يبلغ ضعف معدل الهجرة إليه، ويقول إن «إسرائيل لا تعد الوجهة المفضلة ليهود العالم الذين يفكرون في مغادرة المناطق التي يقطنون فيها. والأكثر إزعاجاً هو استفحال مشكلة هروب الأدمغة، لأن أغلبية المغادرين والساعين للمغادرة هم من الشباب المؤهلين في مجالات التقنية المتقدمة؛ التي تمنح هذه الدولة ميزة التقدم في الصناعات المختلفة وبخاصة العسكرية منها».

في التوقيت ذاته، أوردت صحيفة معاريف الإسرائيلية ما يؤكد صحة بيانات مكتب الإحصاء، ودللت على ذلك بأن «جميع يهود فنزويلا الذين يرغبون في تركها، بسبب الاضطرابات السياسية والأمنية والضائقة الاقتصادية، يريدون التوجه إلى الولايات المتحدة ولا أحد منهم معني بالهجرة إلى إسرائيل»، وبالتوازي مع هذا التحقيق، كانت القناة الإسرائيلية العاشرة تشير بألم إلى أن «نحو ثلث اليهود في البلاد ولا سيما من يعتبرون أنفسهم علمانيين ويقعون في سنوات العقد الثالث من أعمارهم، تراودهم فكرة الهجرة».

من المؤكد أن حاخام برشلونة، المعجب بـ«أرض الميعاد»، وبقية أعضاء حركته الصهيونية المبثوثين في طول العالم وعرضه، يتعامون عن هذه الحقائق. وأغلب الظن أن بين الإسرائيليين من يساعدهم على الاستعماء ومن هؤلاء مثلاً، الصحفي والمعلق العسكري آلون بن دافيد (معاريف 28/‏4/‏2017) الذي يعتقد أن «حدود إسرائيل هادئة أكثر من أي وقت مضى، وقد انهار كل أعدائها التقليديين، وتحررت من أي تهديد وجودي، ولا توجد قوة في المنطقة تستطيع الانتصار عليها أو اقتطاع جزء من أراضيها.. ولديها قوة اقتصادية غير مسبوقة مقابل عالم عربي يغرق في ذاته ولن يستيقظ في المستقبل القريب». المدهش أن هذا الإسرائيلي الواثق يتساءل، بين يدي مداخلته المتفائلة ذاتها، عن الأسباب التي تجعل كثيراً من الإسرائيليين يعيشون مع مشاعر الخوف؟!

هذه التوليفة من الآراء والتقديرات تجاه الحياة في إسرائيل تشي بحالة نفسية ومعنوية مؤلمة. إذ كيف تتسق منطقياً دعوة الهجرة إلى إسرائيل مع حقيقة ارتفاع معدلات الراغبين في مغادرته؟ وحقاً، ما الذي يؤرق الإسرائيليين ويتعب بالهم وينغص عليهم حياتهم، طالما أن دولتهم تمر بحالة من الانتعاش الاقتصادي والتفوق العسكري على الأعداء التقليديين المنغمسين في همومهم الداخلية والبينية؟

أغلب الظن أننا إزاء وضعية قلقة تمثل أحد تجليات النشوء والارتقاء غير الطبيعيين لهذه «الدولة الاستيطانية». وهي وضعية ربما تبدو في ظاهرها مريحة للمحيط العربي، لكنها تنطوي في باطنها على محاذير. فالكيانات السياسية المضطربة المضغوطة تحت الهواجس والوساوس القهرية، قد لا تتورع عن ارتكاب أعمال وسلوكيات غير متوقعة شديدة الخطورة.

Email