كانت المحطة التي وقفنا عليها في المقال السابق من مقالاتي المتخصصة في الاقتصاد المعرفي تحدثت عن الحاضنات الابتكارية والإبداعية في سبيل التصدي لظاهرة التخلف البحثي ليكون حديثي في هذا المقال على ذات السياق وفي سبيل التصدي لظاهرة التخلف البحثي أيضاً من خلال الاستصلاح الفكري والمعرفي والدعوة إلى إنشاء مؤسسات ترعاه وتتخصص في الاهتمام به.
لا يوجد شيء يهدد الكيانات الاقتصادية والماركات التجارية المسجلة مثل الملكيات العامة التي ليس لها ترخيص، وقد خسرت شركات عالمية كبيرة تجارتها ورؤوس أموالها وكل استثماراتها بسبب تلك المنتجات المنتشرة كملكيات عامة ليس لها أي حقوق ملكيات فكرية، كونها توزع في الأسواق بلا تراخيص وبلا أسعار محددة.
من أجل هذا لجأت أغلب الشركات من ملاك الماركات إلى استراتيجيات تنقذها مما يحصل بهذا الصدد، ويدمر استثماراتها، ومن ذلك أنها اهتدت إلى القيام بعمليات استصلاح جذرية للملكيات العامة، وبعد إضافة تحديثات لهذه الملكيات العامة أصبح لها حقوق ملكية وفكرية تخص المستثمرين والمستصلحين لها، وخوّلها ذلك أن تدخل أسواق المنافسة بدون أي مخاطر على السلع والأصناف المرخصة الأخرى، ذات الحقوق والملكيات الفكرية.
بهذه الطريقة استفادت الشركات المصنّعة الكبرى من عمليات الاستصلاحات الفكرية التي كان لا بد منها لإنقاذها من الخسارة الفادحة التي كانت تُمنّى بها أمام المنتجات غير المرخصة، وذات الملكيات العامة.
وكما يبدو فإن أهم ما تحتاجه اقتصاديات المعرفة هو عملية استصلاح فكرية تنقذها من خطر المنتج غير المرخص، ذو الملكية العامة، وذلك بتحديثه أولاً، وكذلك الاستثمار في جانب الاستصلاح الفكري والمعرفي كمجال يمكن الاستثمار فيه كأي المجالات الاستثمارية الأخرى.
وتأتي مشكلة الملكيات العامة ضمن مشاكل حب الراحة الذهنية والتقليد وتبني أفكار الآخرين هروباً من الصعوبة التي يقتديها التفكير المركز وبالمثل فاللجوء إلى الملكيات العامة هو طريق معبّد في كل المجالات وسريع ومضمون النتائج.
إن أي عملية استصلاح فكرية، معرفية، وفي أي مجال تقوم على توفر مجموعة من المكونات الأساسية لتتم؛ وكذلك مجموعة من الإمكانات والمهارات البشرية، ومن ذلك وعلى رأس تلك المكونات المادة المعرفية، التي تعتبر ملكية عامة، إذا كان الاستصلاح فكرياً ومعرفياً، وبما أننا نملك المادة الفكرية من خلال ما توارثناه عن أسلافنا جيلاً بعد جيل، وكان دائماً محط اهتمام العالم في كل العصور، فسيكون الاستصلاح لتلك المعارف والأفكار وبذور العلوم الأساسية مجدياً في استثماراتنا المختصة بالاقتصاد المعرفي.
ولعل من يلاحظ ويتتبع تاريخ الموروث الفكري العربي والمعرفي فإنه سيعرف حتماً كيف استفاد الغرب من ذلك الموروث واستصلحوه بما يخدم العلوم البشرية والإنسانية التي بهروا بها العالم بعد استصلاحها ونقلها من منتج بلا حقوق ومنتج عام الملكية إلى منتج له حقوق فكرية وملكية، وكيف استطاعوا تنمية ذلك المنتج إلى حد جدير بالتقدير والإجلال.
وفكرة الاستصلاح الفكري التي ينادي بها الاقتصاد المعرفي لمواجهة التصحر المعرفي والكساد الاقتصادي ومواجهة التخلف البحثي الذي نعيشه في الوطن العربي تعتمد في دعوتها على الحس الجماعي بالمسؤولية كأهم نقطة يمكن التركيز عليها؛ فعدا إنشاء المؤسسات المتخصصة لا بد من الرعاية الشاملة والجماعية للمبدعين والباحثين الشباب لأنهم فقط القادرون على تحديث ذلك المنتج الموروث وتلقيحه بتجديد يضمن له المنافسة وحيازة الترخيص.
إن الفكرة في هذه المعادلة تعني في جوهرها استخلاص البذور التي نغرسها في الأرض، ثم نوليها الرعاية والاهتمام، حتى تصبح تلك الأفكار أشجاراً عظيمة، لكن هويتها الجديدة تعود لنا، ومع الاهتمام المتزايد والرعاية القصوى اختصاراً للوقت فإنها ستثمر سريعاً أيضاً، لأن الاستثمار في هذه المجالات طويل الأجل، كالاستثمار في التعليم.
وهذا ما يجب أن يكون، وهو أيضاً ما تعتمد عليه أي عملية استصلاح فكرية، فالاستصلاح هو أخذ البذور التي نحتاج إليها من التراث الفكري والتراكمات المعرفية بعد التمحيص والغربلة، وتحديثها، أي منحها هوية جديدة وخصوصية جديدة.
وهي بالطبيعة يجب أن تكون متوائمة مع معطيات العصر واحتياجاتنا في عملية الاستثمارات التنموية، ثم ومن خلال المؤسسات المتخصصة التي يمكن إنشاؤها ودعمها، ومهمتها الأساسية هي رعاية الاستصلاح المعرفي والفكري وإنعاش البحث العلمي الذي لا تنفصل عنه فكرة الاستصلاح.
وتحويل العام إلى خاص، إضافة إلى الحاضنات الابتكارية والإبداعية التي تحدثنا عنها في المقالات السابقة، ومن خلال هذه المؤسسات يتم تنمية تلك البذور الفكرية والمعرفية ورعايتها والاهتمام بها، حتى يصبح لدينا غابة عظيمة، تمثل أشجارها في مجملها حضارتنا الإنسانية، التي تعتز بالأصالة ولا تنفصل عنها وتمجد التجديد والحداثة وترعى المبدعين واجتهاداتهم، والحصيلة بعد استثمار هذه الأفكار التي انتهى إليها أسلافنا واستصلاحها بما يتواءم مع معطيات حاضرنا هي اقتصاد وطني معرفي يقوم على أسس منهجية ويشجع على استصلاح في كل الاتجاهات وفي كل المعارف والأفكار والفنون.
بل ويشجع أيضاً على انتهاج المسلك المعرفي والعلمي اقتصادياً، كأفضل استثمار مثمر يعتمد على تنمية مهارات الشباب الإبداعية وإمكاناتهم البحثية، وقدراتهم على التفكير والتحليل والاستنتاج والتنمية، من خلال هذا اللقاح بين الأصالة والقدرة على التجديد. وللحديث بقية..