كلام عن الإعلام

ت + ت - الحجم الطبيعي

شاهدت في الأسبوع الماضي برنامجاً وثائقياً في التلفزيون البريطاني، عن الأميرة البريطانية ديانا، بمناسبة مرور عشرين عاماً على وفاتها.

كانت الأميرة قد خلبت لب العالم بجمالها وشخصيتها عندما تكرر ظهورها في وسائل الإعلام، وبدرجة غير معهودة، في أعقاب زواجها من الأمير تشارلز ولي عهد بريطانيا.

تمتعت الأميرة بشهرة واسعة في العالم كله، فلما سمع الناس بمصرعها في حادث سيارة مأساوي، بكاها الكثيرون، وكأنهم من أفراد عائلتهم، ولكن الفيلم احتوى أيضاً على لقطات ارتسم فيها حزن عميق على وجه الأميرة، التقطت لها بعد انفصالها عن الأمير، وإذا بوسائل الإعلام تستغل مشاعر الناس بالحزن، كما استغلت مشاعر الحب.

سألت نفسي بعد أن شاهدت الفيلم، عما إذا كان من الجائز أن يوصف مثل هذا الفيلم بالوثائقي، إذ يبدو أن وسائل الإعلام الحديثة يصعب عليها أن تمتنع عن خلط الوقائع بالعواطف، ومن ثم، يصعب عليها أن تنتج وثيقة موضوعية، ربما كانت الصحف، في وقت ما، قادرة على مثل هذا، قبل أن تعتمد على الإثارة في أي موضوع تتناوله، ولكن معظمها لم يعد قادراً على هذا الآن، ناهيك عن الشاشة الصغيرة، التي يختلط فيها الكلام بالصورة، ويختلط الكلام والصورة بالموسيقى، ما لا بد أن يجعل العمل الوثائقي، يبعد أكثر فأكثر عن وصف الواقع ويقترب من الخيال.

ثم تبينت أن وسائل الإعلام بصفة عامة، تتحول أكثر فأكثر، مع مرور الزمن، من وصف الحقيقة إلى إثارة المشاعر، وتزداد فيها نسبة الكتابات المثيرة بالمقارنة بالكتابات الوثائقية، كلما زادت جماهيريتها.

فإذا بالإثارة تجلب المزيد من الجماهيرية، والجماهيرية تستدعى المزيد من الإثارة، ومن ثم، يصبح من الصعب أكثر فأكثر، تناول موضوع مثل حياة الأميرة ديانا بأي درجة من الحياد. فالحياد يفقد الموضوع قدرته على الإثارة، وضعف الإثارة يفقد الموضوع جزءاً من جماهيريته.

ها هو إذن مثال آخر صارخ على أثر التكنولوجيا الحديثة على مضمون الرسالة التي تستخدم هذه التكنولوجيا في تناولها. لقد قرأت مرة، أن أول عدد من صحيفة قديمة، ظهرت لأول مرة منذ ثلاثة قرون أو أكثر، وصفت نفسها عند ظهورها، لا بأنها صحيفة يومية أو أسبوعية أو شهرية، بل بأنها تصدر عند الحاجة، وقد كانت هذه الصفة كافية لأن تقلل الصحيفة من اعتمادها على استخدام عنصر الإثارة في سرد الأخبار.

ولكن بتحول الصحيفة إلى الصدور المستمر والمنتظم، أصبح من الضروري أن يستخدم عنصر الإثارة، لضمان وجود العدد الكافي من القراء. فإذا بالخبر الذي يذكر اليوم لأول مرة، تنشر توابعه في الغد، ويبذل الجهد اللازم للاحتفاظ بالقراء من يوم لآخر، ومن شهر لشهر.

ذكرني هذا كله بالفرق بين ما كان عليه الإعلام في مصر منذ ستين عاماً أو أكثر، وبين حاله الآن.

فقبل سنة 1960، لم يكن المصريون يعرفون التلفزيون، فكانت الأخبار تصلهم عن طريق الصحف أو الإذاعة، ولكن ما زلت أذكر كيف كانت نشرات الأخبار والأحاديث الإذاعية تتسم بوقار أكثر وإثارة أقل مما يلاحظ الآن على ما تبثه شاشة التلفزيون، إذ إن مجرد إضافة الصورة إلى الكلام، ناهيك عن استخدام الموسيقى بصحبتها، يسمح بإثارة المشاعر أكثر مما يسمح به الكلام المجرد.

ذكرني هذا أيضاً بما حدث للمسرح خلال الخمسين عاماً الماضية، بعد أن كان وسيلة أساسية من وسائل الترفيه والتثقيف.

ما زلت أذكر الأثر الذي كان لمسرحيات نجيب الريحاني ويوسف وهبي في الأربعينيات والخمسينيات من القرن العشرين.

كان ظهور يوسف وهبي بلحمه ودمه على خشبة المسرح، كافياً لإثارة حماس المشاهدين، حتى قبل أن ينطق بكلمة واحدة، وكان مجرد سماع صوت الريحاني من وراء الكواليس، قبل أن يظهر على المسرح، كافياً لدفعهم للتصفيق وابتداء الضحك.

فقد المسرح الآن كثيراً من سحره القديم، إذ استطاعت الشاشة الصغيرة منافسته بقدرتها على الانتقال بسرعة من مكان لآخر، وبتكبير المنظر أو تصغيره، فضلاً عن استخدام المؤثرات الصوتية والضوئية بدرجة تفوق قدرة المسرح.

مع كل هذه التغيرات التي طرأت على وسائل الإعلام، هل لا يزال هذا الوصف «وسائل الإعلام» وصفاً دقيقاً لها؟.

إن وسائل الإعلام أصبحت تلعب بعواطفنا أكثر مما تزيد من معلوماتنا، وقد اكتشف السياسيون هذه القدرة الفائقة لوسائل الإعلام على التأثير في عواطف الناس، فأصبح جهاز التلفزيون وسيلة أساسية من وسائلهم في تشكيل اتجاهات الرأي العام، واستخدمها السياسيون في الدول الدكتاتورية والديمقراطية، على السواء، في كسب الأنصار ودحر الخصوم.

ما أطول الرحلة التي قطعناها منذ خطبة أنطونيو الشهيرة في مسرحية يوليوس قيصر لشكسبير منذ أربعة قرون، التي لعب فيها بعواطف الجماهير، التي فجعت بمقتل قيصر، إلى خطب ونستون تشرشل الموجهة للشعب البريطاني، من خلال الإذاعة منذ ثمانين عاماً، لتشجيعهم على تحمل متاعب الحرب.

 

 

Email