القدس باقية والغزاة إلى زوال

ت + ت - الحجم الطبيعي

لو قرأ المتطرفون اليهود تاريخ القدس وعمرها البالغ ستة آلاف سنة، لما واصلوا دقّ رؤوسهم في أسوارها، ولما تشبثوا بمقولة إنها عاصمة أبدية لكيانهم البائد. فكم من غزاة احتلوها ورحلوا، وكانوا عابرين في تاريخ عابر.

حظيت القدس، ولا تزال، بمكانة عظيمة في التاريخ الإنساني، لم تضاهها في ذلك أية مدينة عبر التاريخ وعلى مر العصور.

لقد تميزت المدينة بخصوصية اكتسبتها من انفرادها بالبعد الروحي المرتبط بالزمان والمكان، فهي في الزمان ضاربة جذورها منذ الأزل بوجهها الكنعاني الحضاري، وتمتعت بكل من الموقع والمكانة، فكانت ملتقى الاتصال والتواصل بين قارات العالم القديم، تعاقبت عليها الحضارات وأمتها المجموعات البشرية المختلفة، مخلفةً وراءها آثارها ومخطوطاتها الأثرية التي جسدت الملاحم والحضارة والتاريخ دلالة على عظم وقدسية المكان.

إنها المدينة الخالدة بمشيئة ربانية. سر خلودها في استمرارها آلاف السنين، رغم كل ما حل بها من نكبات وحروب أدت إلى هدم المدينة وإعادة بنائها ثماني عشرة مرة عبر التاريخ، وفي كل مرة كانت تخرج أعظم وأصلب من سابقتها، فمنذ أن قامت القدس الأولى الكنعانية قبل نحو 6000 سنة، وهي محط أنظار البشرية منذ نشأت الحضارات الأولى في (فلسطين ووادي النيل والرافدين)، مروراً بالحضارة العربية الإسلامية حتى اليوم.

مدينة القدس تعرضت لغزوات عديدة، كان أولها من قبل الكلدانيين، حيث قام «نبوخذ نصر» بسبي بعض اليهود المقيمين في أطراف المدن الكنعانية، لرفضهم دفع الجزية، في ما عرف بالسبي البابلي الأول، وتلاه غزو آخر عرف بالسبي البابلي الثاني، بسبب انضمام بعض اليهود الرعاع إلى جملة المدن الثائرة على بابل عام 586 قبل الميلاد، واقتاد عدداً منهم أسرى إلى بابل.

بعد أن فرغ المسلمون من تحرير بلاد الشام من الروم، وجهوا جزءاً من قواتهم إلى فلسطين، وفتحوا مناطق عديدة منها، وحاصروا القدس زمن الخليفة الثاني عمر بن الخطاب، واستمات الروم في الدفاع عن بيت المقدس، بيد أن الدين الجديد، وما يزرعه في نفوس قواته، قد انتصر على عناد الروم، ودب الضعف في نفوسهم، ولما اشتد الحصار لبيت المقدس 636 م، ظهر البطريرك «صفر ونيوس» من فوق أسوار المدينة وقال لهم: إنا نريد أن نسلم، لكن بشرط أن يكون ذلك لأميركم، فقدموا له أمير الجيش، فقال: لا، إنما نريد الأمير الأكبر، أمير المؤمنين، فكتب أمير الجيش إلى عمر بن الخطاب، فخرج عمر بن الخطاب إلى مدينة القدس، ولما أطل على مشارفها، وجد أهل المدينة في استقباله خارج بابها المسمى بباب دمشق، وعلى رأسهم البطريرك «صفر ونيوس»، وقد كان عمر على راحلة واحدة ومعه غلامه، فظهر لهم وهو آخذ بمقود الراحلة، وغلامه فوقها الذي اشترط على غلامه أن يسير كل منهما نفس المسافة، واحد راكباً والآخر يسير على الأقدام بالتساوي، فعندما وصلا، كان دور الغلام وعمر بن الخطاب يأخذ بمقود الراحلة.

بينما رأوه كذلك خروا له ساجدين، فأشاح الغلام عليهم بعصاه من فوق رحلته، وصاح فيهم «ويحكم، ارفعوا رؤوسكم لا ينبغي السجود إلا لله، فلما رفعوا رؤوسهم، انتحى البطريرك «صفر ونيوس» ناحية وبكى، فتأثر عمر وأقبل عليه يواسيه قائلاً: «لا تحزن، هون عليك، فالدنيا دواليك، يوم لك ويوم عليك»، فقال صفرونيوس، أظننتني لضياع الملك بكيت؟، والله ما لهذا بكيت، إنما بكيت لما أيقنت أن دولتكم على الدهر باقية، ترقى ولا تنقطع، فدولة الظلم ساعة، ودولة العدل إلى قيام الساعة، وكنت حسبتها دولة فاتحين، ثم تنقرض مع السنين».

إن ما تشهده القدس الآن من تعنت إسرائيلي ومقاومة شعبية فلسطينية، بلغت حد استشهاد ثمانية من شبانها، كلهم أسماءهم محمد، لا أحد فيهم من الإخوان أو داعش، بل كلهم رضع زيت فلسطين، وأكل من زعترها وزيتونها الكنعاني العربي، يؤكد أن نتنياهو ومتطرفيه في حكومة الحاخامات، يواصلون غطرستهم التوراتية على العرب، وينذرون بحرب دينية قد لا تبقي من إسرائيل قلنسوة حاخام متطرف، ولا شقاً في حائط البراق يلقون فيه دعواتهم.

Email