كيف نقرأ الرأي العام؟

ت + ت - الحجم الطبيعي

تعرف الدولة الحديثة بمؤسساتها، والمدى الذي وصلت إليه في أداء هذه المؤسسات لوظائفها في دولة عصرية وتبعاً للأغراض التي خلقت من أجلها، وقد اكتسبت مصر الكثير من مكانتها في المنطقة لأنها، ومبكراً جداً عن باقي جيرانها، عرفت مؤسسات حديثة مثل الوزارة والبرلمان والأحزاب والنقابات والصحافة والإعلام والروابط الأهلية، وغيرها من علامات الحداثة والمعاصرة.

رغم هذا السبق فإن عدداً من المؤسسات الحديثة لم تعرفها مصر أو سبقتها إليها دول مجاورة؛ ومن بينها استطلاعات الرأي العام التي تقوم بها مؤسسات ناضجة ولديها القدرات المالية والبشرية لكي تقيس نبض الناس.

في الوقت الراهن فإنه لا يوجد في مصر مركز لاستطلاعات الرأي العام سوى مركز «بصيرة» الذي أصبح العين التي نملكها عن نبض وتوجهات الشعب المصري إزاء قضايا وشخصيات مختلفة. وفي الأسبوع الماضي نشر المركز نتائج استطلاع مدى رضا أهالي المحافظات عن محافظيهم، وبلغ الرضا أقصاه في محافظة الإسماعيلية ٧٤٪ وأدناه ٣٨٪ في محافظات الجيزة وبورسعيد والسويس.

كانت العينة الكلية ٤٩٨١ شخصاً وهي عينة مناسبة لهذا النوع من الاستطلاعات الذي يعتمد على المكالمات التليفونية على الخطوط الأرضية والمحمولة، ولكن الاستطلاعات الهاتفية بها عدد من العيوب البنائية، حيث نسبة الذين يرفضون الإدلاء بآرائهم تعد عالية، حيث تصل إلى ٤٥.٥٪؛ وإذا أضفنا إليها نسبة «لا يعرفون» الإجابة والتي كانت أقلها في محافظة بورسعيد ١٢٪ وأعلاها في محافظتي الجيزة والغربية ٣٤٪ فإن الأغلبية أي أكثر من ٥٠٪ لن تكون من أصحاب الرأي سلباً أو إيجاباً الذي يمكن الركون إليه في تحديد مستوى الرضا.

وما لا يقل أهمية عن ذلك أن تحديد مستوى «الرضا» لا يعبر فقط عن مدى القبول أو الرفض النفسي لشخص ما، وهو في هذه الحالة المحافظ، وإنما أيضاً، وهو الأهم، عن الأداء المحدد تبعاً لنوعية المشروعات والوظائف التي على المحافظ القيام بها.

مسألة قياس الرأي العام ظل مغلقاً لفترات طويلة في مصر على المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية، والذي كان يجري بحوثاً تظل مكتومة إذا ما جرى الانتهاء منها في المستويات الأكاديمية وبعضاً منها كان مفيداً لصناعة القرار.

ولكن دخول مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية إلى ساحة استطلاعات الرأي العام بدءاً من عام ١٩٩٧ خلق طفرة في هذا المجال رغم القيود القانونية الواردة على عمليات الاستطلاع؛ بل وجعل جماعة صنع القرار تتخذ من نتائجه سبباً لبعض الإصلاحات التي جرت، وكان أسلوب الاستطلاع الذي اعتمده المركز هو أسلوب المقابلة المباشرة مع باحثين مدربين لاستيفاء إجابات على أسئلة تضيء الطريق أمام قضية بعينها مثل المشاركة السياسية أو الانتخابات أو إجراءات الإصلاح الاقتصادي، وظل الحال كذلك حتى عام ٢٠١٢ وبعدها ـ فيما أعلم ـ توقف المركز عن إجراء الاستطلاعات؛ وأصبح مركز «بصيرة» عملياً هو المركز الوحيد الذي يجري استطلاعات الرأي العام في الحدود التي بنيناها عاليه.

دولة مثل مصر تحتاج، وتستحق، مراكز عدة لاستطلاعات الرأي العام. هذه المراكز سوف تبني مصداقيتها بنفسها، ويكون مجموعها معبراً عن اتجاهات وتيارات مستمرة أو عابرة، عندما يكون عملها عبر مجموعة من السنوات.

من المدهش أن يكون لدى الأردن، والأراضي الفلسطينية، وإسرائيل بالطبع، وتونس والمغرب، مراكز مهمة لاستطلاعات الرأي العام، بينما لا يوجد في مصر إلا مركز واحد يستخدم الاتصال الهاتفي.

صحيح أن كثيرين في مصر لديهم تحفظات عدة على مثل هذه الاستطلاعات، وهناك من يعتبرها مستحيلة نظراً لاعتبارات ثقافية يعددونها، والبعض الآخر يراها مصطنعة يمكن استخدامها لأغراض غير بريئة؛ ولكنها في هذا الأمر لن تختلف كثيراً عن كل المؤسسات الحديثة في الدولة من البرلمان للأحزاب لوسائل الإعلام التي يمكن أن تفسد أو تفقد المصداقية أو تستخدم فيما ليس فيه فائدة للبلاد.

إنني أدعو جهات عدة، من بينها، مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية والمركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية ومعهد التخطيط القومي، ومركز البحوث والدراسات السياسية في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، وغيرهم من المؤسسات المرموقة، عامة وخاصة، إلى أخذ زمام المبادرة أولاً في جعل الإطار التشريعي لاستطلاعات الرأي العام مماثلاً لذلك الذي يعمل في البلدان الحديثة؛ وثانياً للبدء في القيام باستطلاعات الرأي العام والدراسات المصاحبة لها.

الطريق إلى تقدم مصر طويل، ومعرفة رأي الشعب خلال هذه المسيرة ضروري.

Email