«داعش» أداة تقسيم المنطقة

ت + ت - الحجم الطبيعي

لو قلبنا صفحات أطلس جغرافي - تأريخي، يعرض خرائط القارات في أزمان مختلفة منذ مطلع القرن العشرين، لوجدنا الكثير من التغييرات قد طرأت على مساحات الألوان المختلفة، تمدداً أو تقلصاً أو ظهوراً لألوان جديدة في هذه القارة أو تلك.

هذه التغيرات الجغرافية، تعكس ما أحدثته الصراعات، مسلحة أو سلمية، من تغيرات جغرافية، لتصبح متناغمة مع متطلبات نظام له ملامح سياسية واقتصادية على مستوى قارة أو منطقة، يتماشى مع التوازنات القائمة فيها.

على مدى قرن من الزمن، طرأت تغييرات عديدة على خرائط منطقة الشرق الأوسط، كان أولها وأبرزها، الخرائط التي انبثقت عن اتفاقية سايكس بيكو، التي قسمت أشلاء الإمبراطورية العثمانية بُعيد الحرب العالمية الأولى، إلا أن ذلك لم يكن نهاية المطاف، فقد أجريت في ما بعد تعديلات كثيرة على حدود بعض الدول، وألغيت كيانات كانت قائمة لتضم إلى هذه الدولة أو تلك، كما انبثقت دول أخرى.

مع أن هذه الإجراءات قد اكتسبت اعتماداً دولياً، إلا أنها لم تكن مُرضية للعديد من المكونات العرقية والدينية والمذهبية والثقافية التي لم تحصل على كيان سياسي وهوية خاصة، تضمن حقوقها السياسية والثقافية، نذكر منها بعض الكتل الكبيرة، مثل الكرد والبلوش وعرب الأحواز، التي حشرت على الرغم من إراداتها في دول أخرى، لتصبح مجرد أقليات فيها تشعر بالغربة عنها.

لقد تعززت مشاعر هذه الأقوام بالتهميش، مع تصاعد المشاعر القومية بعد الحرب العالمية الثانية، التي شكلت مداخلاً للتمردات والثورات على الحكومات التي نصبتها بريطانيا وفرنسا راعيتا سايكس بيكو.

منذ فرض الحصار على العراق مطلع تسعينيات القرن المنصرم، صدرت عن بعض مراكز البحث والتطوير في الولايات المتحدة، دراسات ترجح تقسيم العراق إلى أقاليم ثلاثة، وردت لاحقاً عام 2006 كمشروع يحمل اسم السناتور جوزيف بايدن، وساعد غزو العراق وإسقاط الدولة العراقية، على جعل هذه الفكرة ومشروعها غير بعيدة عن الاستساغة، في أجواء الصراعات التي بدأت تعيث بالاستقرار والأمن المجتمعي في العديد من المدن العراقية.

إلا أن تلك الإرهاصات الخجولة قد تحولت إلى أصوات عالية، لا تخفي النوايا المبيتة لإعادة النظر بتركيبة منطقة الشرق الأوسط، ورسم خرائطها على الأسس التي ذكرناها، مع انبثاق الربيع العربي، وظهور تنظيم داعش، وتحول الانقسامات السياسية إلى صراعات مسلحة أو قريبة من ذلك في كل من سوريا وليبيا واليمن، وهي حالة لا يمكن تفهمها بمعزل عن تصور إرهاصات ميلاد نظام إقليمي جديد في المنطقة، بدل النظام الذي وضعته اتفاقية سايكس بيكو.

رغم أن الأحاديث عن تقسيم المنطقة إلى دويلات، لم يرد بشكل رسمي عن إحدى الدول الكبرى ذات النفوذ في المنطقة، إلا أنه تم تسريبها مصحوبة بخرائط مقترحة للدويلات الجديدة، عبر قنوات غير رسمية، لها علاقات واسعة مع دوائر صناعة القرار في الولايات المتحدة، مثل صحيفة النيويورك تايمز، وهي بذلك لا يمكن اعتبارها مجرد تكهنات تعبر عن رأي الصحيفة.

أحاديث كهذه لم تأتِ من فراغ، فالتقسيم أحد السيناريوهات المقترحة لمعالجة حالة العنف السائد وعدم الاستقرار، في سياقات تزايد الدعوات لبعض المكونات التي أشرنا إليها، التي تشكو من الغبن، وتتطلع لرفع سقف ما تتمتع وتعاظم دور المنظمات التي تتعاطف معها، مثل هيومن رايت ووتش والعفو الدولية وحقوق الإنسان، وبعد أن أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي وسيلة هامة لتأليب الرأي العام وتسليط الضوء على المظالم التي تتعرض لها لمضاعفة الضغوط على حكوماتها.

أما عن التسريب، فهو الآخر ليس عفوياً، إذ لا شك أن قضايا حساسة على هذا المستوى من الخطورة، تدور خلف أبواب موصدة في الدوائر الاستخبارية، لا يمكن أن تسرب دون هدف سياسي، فهناك غرضان من ذلك، الأول هو التعرف إلى ردود الأفعال، خاصة في الأوساط السياسية والفكرية ذات الثقل في الحياة السياسية في المنطقة، والثاني جعل هذا المفهوم في متناول عامة الناس، ليصبح قيد التداول في أوساطها، ما يجعل الفعل التقسيمي حين يحين استحقاقه غير مفاجئ.

والحقيقة أن ذلك قد حقق مبتغاه، ففكرة إعادة التقسيم باتت تطفو على السطح، وأصبح التقسيم مفردة مألوفة في التحليلات السياسية في العالم العربي، ومنها تحليلنا هذا، كما أنها حين تُرفض على لسان بعض الساسة، لا يصل الرفض مستوى الاستنكار.

مع أن بعض الدول الإقليمية لديها مشاريع لإعادة رسم خرائط المنطقة، إلا أن الولايات المتحدة ضالعة أكثر من غيرها في ذلك، فهي اللاعب الأكبر، وصاحبة مشروع الشرق الأوسط الجديد، واحتلالها العراق بمثابة الخطوة الأولى نحو البدء بتنفيذه، على الرغم من الاعتراضات الشديدة من معظم دول المنطقة، وتحفظ أوروبا التي اعتادت التعامل مع قضايا المنطقة ودولها، وفق ثوابت سايكس بيكو.

 

 

Email